فضاء الرسّام لوحة...
تقف أمامه... ترخي مساحاتها بين عينيه.... تطلق لجناحيْ خياله مداها...
تترك له أن يلوِّنها كما يشاء له خياله الصامت الجامح...
لا تقيِّده فهي ممهدة لا يتردّى فيها... ولا يتعثَّر بها...
وحين تنطق بين يديه... فإنّها الطبيعة التي منحته جزءاً من مراياها فأفرغت وميضها في ريشته...
أو هي الكائنات التي تحرّكت في مخيلته فوهبته من دهشاتها بصنيع الخالق فيها ما اندسّ في تجويفة ذهنه فأخرجته ألوانها...
أو هي أي من رواسب تراكمت مادتها في دخيلته بصمت... ليخرجها خياله بصوت...
تلك هي فضاءات النفس التي تتحوّل بين يديْ الرسّام في لوحته...
وهي التي تتشكّل في منطق الشاعر حروفه التي تعبِّر عن مكنونه...
وهي التي تتكوّن في كلِّ عمل خلاّق.. وإنْ جاء طعاماً لذيذاً تعدّه ربة بيت لا خيال لها أبعد من أفواه أبنائها
حين تذوُّق ...
بمثل الماء يجعل به الله تعالى كلّ شيء حيا...
بمثل الألوان والأحبار والسوائل التي يهب الله بها كلّ جميل في قدرة خلقه...
تأتي المقارنة بين خيال الرسّام وخيال الشاعر.. وبين خيال المهندس وخيال النقّاش... وبين خيال الطبّاخ وخيال القاص... ليست تنتج أجمل من المقارنة بين من يرسم العقول حين يدرِّبها ويمحو الأغبرة من سديم قواها... وبين من يحيك الثوب ويعدّ اللقمة... أو ذلك الذي يبتكر كيف يتكلّم مع الآخرين فيوسِّع لهم فضاء الفرح ويفرد لهم بُسُط َالبهجة... ويقيم لهم ظلال الطمأنينة...
كلُّ أولئك مبدعون... يشكِّلون فضاءات الحياة للإنسان لتكون الحياة آهلة بالسعادة...