تحقيق: ماجد بن عبدالله الزعاقي
الإجازة الصيفية هل هي ذلك الهاجس الذي يطلق القدرات والإبداعات في استثمار الأوقات وتحقيق النتائج وتفعيل الذات؟!! أم ذلك المارد الذي يمثل التفريط والتسويف وقتل الأوقات؟!!! إنها معادلة تطرح نفسها في كل عام ويخضع الناس في الاستجابة لشقي هذه المعادلة حسب اعتبارات كثيرة تقدر بقدرها لكل شخص.. وفي تحقيقنا هذا نتطرق لجوانب هامة في هذه المعادلة فإلى هناك..
بداية يؤكد الشيخ عبدالمحسن بن عبدالرحمن القاضي خطيب جامع السلام بعنيزة إن من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، فليس الوقت من ذهب كما يقول المثل الشائع بل هو أغلى من الذهب واللؤلؤ ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم، إنه الحياة والعمر، والإنسان يفتدي نفسه بكل غال ونفيس، قال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي) من أمضى يوما من عمره في غير حقٍ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجد أصّله، أو فعل محمود حصّله، أو علم اقتبسه، فَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره.
وفي المقابل حذر الأستاذ الدكتور عبدالله بن سلطان السبيعي أستاذ الطب النفسي بجامعة الملك سعود من مغبة الوقوع فريسة للفراغ، وقال: لقد قرأت آية من كتاب الله هي قوله -تعالى- في آخر سورة الشرح {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قرأت تفسير هذه الآية في أكثر من مرجع فإذا هي مخاطبة للرسول -صلى الله عليه وسلم - بأن يتوجه إلى الله بالعبادة بعد أن يفرغ من شغله مع الناس، وأن ينصب في ذلك ويتوجه إلى الله بكل ما يفعله. والمعنى الذي استشعرته من الآية والذي ينطبق على كل إنسان مهما كان هو معنى الفراغ بمعناه الشامل، أي إذا انتهى الإنسان من أي عمل كان، ووجد نفسه فارغاً، لا يجد شيئاً يفعله، توجهه الآية الكريمة أن يبحث عن شيء يشتغل به، ولكن الآية لا تترك التوجيه هكذا عائماً يفسره كل حسب هواه، إنها توجهنا، ألا يكون ما نشتغل به لمجرد شغل الفراغ ولكن يجب أن يخضع لضابطين أساسيين هما: النصب، والنية الصالحة.
مفاسد مترتبة
ثم يعرج السبيعي على المفاسد المترتبة على الفراغ بقوله وإذا انتقلنا لمفاسد الفراغ من منطلق الآية سالفة الذكر يظهر لنا:
أولاً: أن الفراغ سبب أساسي في الكثير من أمراض العصر النفسية والجسمية حيث لا يختلف الأطباء أبداً في أثر الفراغ في الجسم البشري أو حتى الحيواني وأنه يؤدي إلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والروماتيزم والجلطات القلبية والدماغية، وهم أيضاً لا يختلفون كذلك أن الفراغ وراء الاكتئاب والقلق النفسي والهم.
ثانياً: الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئاً تهفو إليه نفسه كنتيجة لعمله، فهو بلا هدف في الحياة.
ثالثاً: الفراغ وسيلة من وسائل ابليس يوسوس فيها للإنسان فيثير فيه كوامن الغرائز ويلهبها فتحرقه وتفلت من لجامها لتحرق ما حوله. وهذه حقيقة لا مراء بها.
رابعاً: الفراغ سبب للمشاكل الأخلاقية والجريمة، ويشهد بهذا علماء الاجتماع، إذ وجد أن نسبة الجرائم والمشاكل الاخلاقية تتناسب طردياً مع نسبة البطالة في أي زمان ومكان.
خامساً: الفراغ سبب في كسب الذنوب مثل التفكير في المعاصي والحديث في الناس، وما إلى ذلك.
سادساً: الفراغ تعطيل للطاقة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع.. ومنها: وعن عمره فيما أبلاه.
الشباب والاجازة
وبمناسبة حديثنا عن الفراغ والإجازة يتجلى لنا عنصر فاعل في هذه المعادلة ومن أكثر عناصرها أهمية ألا وهو الشباب فما هو حال الشباب في هذه الأثناء وعن ذلك يحدثنا الشيخ عبدالمحسن بن عبدالرحمن القاضي خطيب جامع السلام بعنيزة فيقول من المحزن حقاً أن يعيش شباب في عمر الزهور واكتمال القوى وهم لا يبالون في اضاعة أوقاتهم سدى بل انهم يعتدون على أوقات الآخرين ليقطعوها باللهو والباطل. محذراً من الذهول المهلك والغفلة عن الغد واغراق مميت في الحاضر مغترين بنظرة الشباب العارضة وتضييع الأيام والليالي من غير حساب ولا محاسبة.
واضاف: وإن من الغفلة والحرمان وسبيل فناء أمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضحى، أو ما بعده، تمر عليهم زهرة اليوم وهم يغطون في نوم عميق قد بال الشيطان في آذانهم إذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل الخطى خبيث النفس هزيل القوى كسلان أضاع يومه ما بين سهره ونومه.
آفات الاجازة
كما حذر د.الحليبي من بعض السلبيات التي قد تخالط الإجازة وهي كما يرى آفات الإجازات فهي كثيرة جداً.. ولا يجوز للآباء أن يهربوا من مسؤولياتهم تجاهها:
أولها: قعود الأولاد.. أيا كان الداعي للقعود، فإن الطفل خاصة، والإنسان بعامة في حاجة ماسة للحركة، وإذا كان علماء النفس يرون أن الطفل في حاجة إلى الحركة بنسبة 75% من وقته، فما الحال بالنسبة لأطفال الفضائيات أو الألعاب الإلكترونية وغيرها؟ وهذا يجعلنا نبحث عن الألعاب الأكثر قدرة على الحركة؛ كالكرة والدراجات وركوب الخيل، والسباحة، وسباق الجري، وغير ذلك.
ثانيها: التلوث الفكري.. وهو ما نجده الآن في عدد كبير من الفضائيات المفتوحة، والمواقع الإباحية، التي هدمت بيوتا كانت آمنة مطمئنة، وقذرت أعراضا كانت مصانة محفوظة، وغيرت نفوسا كانت عزيزة منيعة، ولا حل سوى تغييبها عن المنزل، لأن الفتنة لا تؤمن على أحد، ولا سيما في سن التشكل.
ثالثها: الصداقات الرديئة، والتي تتكاثر كالجراثيم في الجرح المفتوح، فمن عرض نفسه لذلك فقد وقع أو أوقع من تحت ولايته في أتون الدمار، ولا يقولن أحد إنه قادر على حماية نفسه، والأمر لا يعدو مجرد صداقة بريئة، نهايتها الضحك والمزاح، بل إن النهايات التي شاهدناها لمثل ذلك الفتنة، وضياع المروءة، وقلة الصلاة، وتعاطي التدخين أو المخدرات والخمور، وسفر المعصية، وضياع الهدف حتى من الحياة.. وفي النهاية عدم النجاح في أي شأن من شؤون الدنيا والآخرة.
المداومة على الطاعات
وبعد القاء الضوء على خطورة الوضع حسب ما سلف يتطلب منا ذلك وضع الحلول لمثل هذه الأحوال فمن جانبه حث الشيخ عبدالمحسن بن عبدالرحمن القاضي خطيب جامع السلام بعنيزة على أهمية المداومة على العمل الصالح بقوله من أجل مزيد من حفظ الوقت والانضباط فيه علينا أن ندرك حكمة الإسلام في المداومة على العمل وإن طال فالمنقطع وذو الأمزجة لا يكاد يجدي، ولو كان كثيرا فالعمل الدائم يبدأ صغيرا ومع المداومة وقوة العزيمة يغدو كبيرا. وإن المداومة والمسارعة في الخيرات فيها اغتنام للوقت من غير تكاسل أو تثاقل ففي حديثه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر) رواه الترمذي.
وأضاف القاضي وإن مما يحفظ الوقت التنظيم وحسن الترتيب فالوقت لا يتسع لكل شيء ومن شغل نفسه بغير المهم ضيع المهم وفوّت الأهم، ومن وصايا أبي بكر لخليفته عمر رضي الله عنهما: (اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبل بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار)، ولهذا جاءت عبادات كثيرة موقوتة بأوقاتها، التقدم عليها لا يجزي والتأخر من غير عذر يوقع في المأثم والمغرم.
التخطيط للإجازة
وللاستثمار الأمثل للوقت يتطلب منا التخطيط للاجازة وفي هذا الجانب يقول الدكتور خالد بن سعود الحليبي إن غياب عنصر التخطيط عن حياتنا في جميع اتجاهاتها هو من أبرز عناصر الفشل فيها، والبراءة من هذه العلة ليست عسيرة، ولا تحتاج إلى طبيب ولا مهندس، كل ما تحتاجه التفاتة إلى ما يجب أن نفعله، أو حتى ما نود أن نفعله، فنجلس له، ونحدد الهدف منه بدقة، ثم نخضع له كل قوانا من أجل التخطيط الذي قد يستغرق منا زمنا.. هو به جدير ولا شك. وقال فمن استطاع أن يديرها بإحكام، وينجز ما ظن أنه غير قادر على إنجازه منا. وتساءل فما أهداف الإجازة في نظرنا؟
واقترح الدكتور الحليبي ثلاثة أهداف للاجازة وهي:
الأول: الارتقاء بالنفس في معارج التهذيب.
الثاني: اكتساب مهارات لها أهميتها في حياتنا العملية.
الثالث: الراحة والاستجمام.
وأضاف ولكل هدف يجب أن نضع برامج خاصة بنا، وبرامج خاصة بأولادنا. على أن تكون هذه البرامج ذات طبيعة مرنة، تتمتع بالقدرة على الوصول إلى أكثر من هدف وقال أعني أنني يمكن أن أرسل ولدي إلى ناد صيفي تابع لوزارة التربية والتعليم؛ وأهدف من خلاله إلى تهذيب نفسه وأخلاقه، وتعليمه عددا من المهارات، والترفيه حاصل من خلال تواجده في بيئة مفتوحة نشطة، غير مملة، يجتمع فيها مع أقرانه، ويمارس بعض رغباته وحينما أقصد إلى شراء لعبة ما لابنتي.. لا بد أن أهدف من خلالها إلى هدفين، الأول: تعليمها مهارة الدقة والذكاء، والتنفيس عنها بجودة اللعبة وحسن مظهرها وقدرتها على الخروج بها عن إطار النمطية والجدية الدائمة... وهكذا!
وأوصى الحليبي من وضع تخطيطه لقضاء الإجازة بالسفر بقوله إذا كان لا بد من السفر، فليكن بعيدا عن البلدان التي يتخلع فيها الحياء، ويبتذل فيها الإنسان، وتنتحر في لياليها الفضيلة وعلينا أن نتوجه إلى بلدان فيها متنفس روحي لتهذيب النفس وميدان فكري وعقلي بالاطلاع على حضارتها ومعطياتها المدنية والعلمية حيث الإحساس بطعم الراحة.. وقال ولماذا البعد والجفاء.. ومكة والمدينة وأبها والطائف والباحة على مقربة منا، في منتجعاتها أجد كل أهدافي النبيلة من إجازة تمتد ثلاثة أشهر متطاولة!!
وقفات مع الاجازة
وفي نهاية هذا التحقيق كان لا بد لنا من وقفات في استثمار الإجازة مع الشيخ عبدالمحسن بن محمد القاسم قال فيها الوقفة الأولى: خير الأسفار ما كان في مرضاة الواحد الأحد، وقد كانت أسفار المصطفى بعد البعثة دائرة بين سفره للهجرة وسفره للجهاد، وهو أكثرها، وسفره للحج والعمرة.
الوقفة الثانية: لزوم حسن الصحبة في سفرك والتحلي بالمروءة ومكارم الأخلاق.
الوقفة الثالثة: كن مقتدياً بالمصطفى، فكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحب الخروج يوم الخميس، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، ونهى أن يسافر الرجل وحده وأخبر أن الراكب الشيطان والراكبين شيطانان والثلاثة ركب.
الوقفة الرابعة: لقد أسبغ الله عليك نعمة المال والعافية وغيرك حُرم ذلك، فلا يكن سفرك إلا لأمر مشروع أو مباح، واحذر سفر المعصية فصاحبه ينتقل فيه من الأنس إلى الوحشة ومن سرور الأسفار إلى هم مطاردة الأفكار.
الوقفة الخامسة: تذكر وأنت تسافر للنزهة مشقة سفر العلماء لتدوين العلم وحفظ الدين وهداية الأمة فقد سطروا من الأخبار أعجبها ومن الأحداث أحلكها متعرضين للفقر والجوع والمخاطر رغبة في الثواب ونشر الحق.
الوقفة السادسة: قلم التكليف جارٍ على المرء في ظعنه وإقامته فكن داعية خير في سفرك، ولا تزدر نفسك في الدعوة إلى الله.
الوقفة السابعة: لا يكتمل النعيم إلا براحة الروح مع الجسد وقراءة القرآن وذكر الله يضفي على السفر راحة وطمأنينة يقول عز وجل: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} سورة الرعد (28).
وفي ختام حديثه يقدم فضيلته رسالة للمسافر فيقول لقد جاءت الشريعة بالحفاظ على دين المرء ودرئه عن الفتن والشبهات والشهوات وعدم تطلعه إليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن استشرف إليها- أي الفتن- أخذته) (رواه البخاري).
*إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر