Al Jazirah NewsPaper Friday  08/08/2008 G Issue 13098
الجمعة 07 شعبان 1429   العدد  13098
أردوغان يحول السكة عن قطاره السياسي
عبد الإله بن سعود السعدون

كانت للحظة المنتظرة لتلاوة قرار المحكمة الدستورية من رئيسها القاضي هاشم كليبح بعدم سحب ترخيص حزب العدالة والتنمية وتبرئة واحد وستين من زعمائه من تهم معاداة الفكر الكمالي ومحاولة تغيير أسس الجمهورية الأولى التي أسسها قائد تركيا الحديثة أتاتورك، واكتفاء هيئة المحكمة بحرمان الحزب من نصف المساعدة الحكومية ومن خزينة الدولة المقدمة لدعم الأحزاب السياسية كمعونة سنوية؛ حتى لا تضطر لتمويل نشاطاتها الحزبية من خارج تشكيلاتها الرسمية، وقدر هذا الجزاء المالي بخمسة وعشرين مليون يورو.. إنها مرحلة تاريخية تشكل أهم عقد في سلسلة نمو وتطور حزب العدالة والتنمية وأيضاً اختبار حقيقي للقدرات السياسية لزعيمه رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء الذي بادر بإعلان امتنانه لقرار المحكمة الدستورية ووصفه بأنه انتصار للقضاء التركي ودعم حقيقي للحياة الديمقراطية التي يعيشها ويحترمها حزبه، وأكد مرة أخرى تمسكه بالدستور وما جاء به في الأسس العلمانية والاجتماعية التي غرزها أتاتورك كطريق سياسي للشعب التركي وأنه وحزبه لن يحيد عنها!

وطالب رئيس الجمهورية عبدالله كول الشعب التركي بالوحدة الوطنية وعدم منح الإرهاب والتخريب فرصة فك وحدة الشعب وتفكيكه، وناشد الحكومة بالعمل على المصالحة الوطنية وأن تكون علاقة الحزب الحاكم والمعارضة علاقة تكامل وليست تهميشاً أو عداء.. وبادر أردوغان بزيارة غير مرتقبة ومفاجئة لمنافسه السياسي الدكتور دنيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض في المستشفى إثر إصابته بإجهاد شديد أدى إلى حالة إغماء أثناء إلقائه لخطاب سياسي في كتلته البرلمانية وقد علق الإعلام التركي بأن هذه الزيارة السياسية تفتح تقليداً جديداً يعتمد على العلاقات الودية والإنسانية بين الأحزاب المتنافسة تحل محل العداء والاتهامات المتبادلة.

التاريخ السياسي التركي القريب شهد حالات كثيرة في حجب النشاط السياسي عن العديد من الأحزاب السياسية الإسلامية واليسارية بحجة مخالفتها لأسس النظريات السياسية للجمهورية التركية المعتمدة على العلمانية والأفكار الكمالية المثبتة في كافة الدساتير المعتمدة في الدولة التركية.

ومن أجل الحد من انتشار الفكر الإسلامي تعرض حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان في بداية السبعينات وفاز من مرشحيه أربعون شخصية ذات اتجاه إسلامي بالمقاعد البرلمانية ولأول مرة في تاريخ الحركة الديمقراطية التركية، واشترك في وزارة الرئيس سليمان ديميريل الائتلافية بحقيبتين وزاريتين وجاء انقلاب 12 سبتمبر من عام 1980م بشل الحركة الحزبية وتقديم زعماء الأحزاب للمحاكمة، وتم تغيير الدستور وتشكيل المحكمة الدستورية لتحمي الأفكار الكمالية والعلمانية. وبعد عودة الحياة السياسية المدنية عاد أربكان للمسرح السياسي بحزب جديد أطلق عليه لقب (السلامة الوطنية) وأن يكون وريثاً شرعياً لحزبه المنحل (النظام الوطني) ويشكل بأفكاره محوراً للفكر الإسلامي وشارك في الانتخابات العامة ممثلاً للكتلة الإسلامية الجديدة والتي نالت تأييداً شعبياً مفاجئاً للسياسيين الأتراك بفوزه بضعف مقاعد حزب النظام الوطني المنحل حيث احتل ثمانين مقعداً نيابياً وأصبح أربكان شريكاً وحيداً في وزارة بولند أجويد الائتلافية وحاول أربكان بث أفكاره السياسية عن طريق صحيفة حزبه (جريدة الأمة) والتي شنت حملات إعلامية على الفكر العلماني وتقديم شخصيات إسلامية في جهازها الصحفي ولم يتم حزب السلامة الوطني عامه الثاني حتى تحول ملفه القضائي إلى المحكمة الدستورية والتي أصدرت قرارها آنذاك بإغلاقه وسحب ترخيص صحيفته السياسية والناطق باسمه بتهمة محاربة العلمانية ومبادئ الجمهورية.

وعاد أربكان ورفاقه ومنهم الرئيس عبدالله كول والرئيس أردوغان لإعلان حزبهم الجديد (حزب الرفاه) وركز في برنامجه الانتخابي على حالة العداء العلماني وممثليه في الأحزاب الأخرى والمؤسسة العسكرية للفكر الإسلامي والذي يؤيده ويؤمن به معظم الشعب التركي وجاءت المفاجأة مرة ثانية وبقوة هذه المرة بفوز حزب الرفاه ذي الاتجاه الإسلامي بأكثر من 180 مقعداً في البرلمان نتيجة لدعم الشعب لأفكاره الإسلامية، وأصبح أربكان نائبا لرئيس الوزراء في وزارة دميريل الائتلافية وحصل على أكثر من عشر حقائب وزارية، منها وزارة الدولة للشؤون الخارجية شغلها الرئيس الحالي عبدالله كول، وانتخب رجب طيب أردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول الكبرى وبرزت شخصيته الشابة في الأعمال الإصلاحية المهيمنة المقدمة لأبناء اسطنبول.

وانقسم أعضاء حزب الرفاه بين رواد قدامى وشباب يحمل أفكاراً إصلاحية واقعية تتمشى مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي التركي وعلى إثر انقلاب الجيش الذي قاده الجنرال كنعان أفرين أغلق حزب الرفاه وقدم أربكان للمحكمة على إثر ما جاء بخطاب الرئيس الليبي معمر القذافي بكشف بعض أفكار أربكان الإسلامية وعمله لتطبيق الشريعة الإسلامية واتجاهه نحو الوحدة الإسلامية وأنه تلقى دعماً مالياً من أعضاء منظمة الدول الثمانية الإسلامية لنشر هذه الأفكار وتطبيقها في الدولة التركية وثم حرمان أربكان من حقوقه المدنية وحجب نشاطه السياسي طيلة حياته!

وتحولت خلافة حزب الرفاه بين جماعة الشباب بزعامة الرئيس كول وأردوغان تحت مسمى حزب العدالة والتنمية ومجموعة الشيوخ الرواد في الحركة الإسلامية بمسمى (حزب السعادة) ومع الانتخابات العامة في عام 2002م جاءت نتائجها مفاجأة ثالثة ومذهلة للقوى العلمانية التركية بفوز ممثل الفكر الإسلامي حزب العدالة والتنمية بأكثر من 350 مقعداً في مجموع مقاعد المجلس (550 مقعداً) وحصوله على الأغلبية البرلمانية وتشكيله لوزارته الأولى من بين أعضاء حزبه وانهزام الشيوخ الرواد ممثلي الاتجاه الإسلامي الأربكاني وعدم حصول حزب السعادة بأي مقعد نيابي. وفي هذه الفترة برزت شخصية أردوغان السياسية الشابة برصيد المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قدمها حزبه للمواطنين الأتراك لتحقيقه نمواً اقتصادياً عالياً يرافقه استقرار أمني وسياسي واضح في الحياة العامة في دولة تركيا. واستفاد مرشحو حزب العدالة في الانتخابات الأخيرة في عام 2006م فحقق فوزاً آخر بحصوله على الأغلبية البرلمانية مرة ثانية وشكل أردوغان وزارته الثانية وحقق حزب العدالة حلمه السياسي.

بتحقيق نصر سياسي لم يتحقق منذ أربعين عاماً بتولي ممثلي الحزب ومرشحيه للمناصب السيادية الثلاثة: رئاسة الجمهورية والبرلمان والوزارة.

واتجهت برامج أردوغان نحو إدخال الإصلاحات الاجتماعية دون أخذ الماضي السياسي للدولة التركية بنظر الاعتبار، فالمجتمع التركي تطبع وهضم الأفكار الكمالية والتمسك بأسس الجمهورية العلمانية وبحماية القوات المسلحة والمنظمات الكمالية فقدم أردوغان قانون (الحجاب) الذي يمنح طالبات الجامعة حرية ارتدائه في الحرم الجامعي والذي أثار زوبعة في أوساط المعارضة العلمانية، وتحذير الجيش من تمريره لمخالفته للدستور والأفكار الكمالية العلمانية. وبعد إقراره في مجلس النواب وتصديق رئيس الجمهورية ألغته المحكمة الدستورية بأغلبية أعضائها. وانتقد الإعلام التركي توجهات أردوغان في تشجيع قيام الجمعيات الإسلامية ومعادلة شهادة معاهد تحفيظ القرآن بالمدارس الثانوية الرسمية وتعيين خريجي هذه المعاهد في مناصب الدولة.

وعلى إثر القرار الأخير للمحكمة الدستورية بتبرئة حزب العدالة والتنمية من تهمة تقاطعه مع الفكر العلماني الكمالي وفي اليوم الأول لصدوره زار أردوغان نصب أتاتورك ووضع إكليلا من الزهور عليه وكتب كلمة في دفتر الزيارة ولأول مرة يقرؤها رئيس وزراء تركي بصوت عالٍ حين كتابة مفرداتها والتي تضمنت التزام أردوغان وحزبه بأفكار مؤسسي الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ولا يمكن أن يحيد عن الأسس العلمانية التي وردت في الدستور مع التعهد بتثبيتها في المجتمع التركي ودعم القوات المسلحة الدرع الواقي لأرض وسماء وبحار الدولة والوطن، وكرر عدالة المحكمة الدستورية وقرارها المؤيد للمسيرة الديمقراطية، ومع هذا التحول الظاهر في توجه الخطاب السياسي للرئيس أردوغان بتأثير القرار التحذيري من المحكمة الدستورية والذي وصفه بعض المحللين السياسيين الأتراك بأنه (الكارت الأصفر السياسي) لمسيرة وبرامج حزب العدالة والتنمية والذي يحد في توسيع دائرة توجههم الإسلامي وقد يغير دائرة نشاطه الحزبي نحو الاقتصاد والسياسة الخارجية فقد بدأ مجلس الوزراء التركي بمنح مساعدات سخية للمزارعين وتخويل إدارة البنك الزراعي بحرية تأجيل القروض السابقة لعام آخر ورفع الأسعار الرسمية لتداول الحبوب والفواكه والخضار والتي تسوقها مؤسسات اقتصادية رسمية من أجل تصديرها لدول الاتحاد الأوروبي وتشكل هذه الإجراءات الاقتصادية والموجهة للريف التركي ذي الأكثرية الإسلامية رصيداً مدخراً للانتخابات العامة والتي ستجرى العام القادم، ولحين بلوغ هذا اليوم المنتظر سيوجه أردوغان جل اهتماماته ونشاطاته السياسية من أجل توسيع نطاق الخدمات العامة وتخفيف معاناته الحياتية وحمايته بإجراءات اقتصادية مدروسة من زوبعة الغلاء العالمية والسياسية في صراع السلطة مع المعارض والتي تتجه نحو المصالحة الوطنية. والاستقرار السياسي لتمهيد الطريق نحو الاشتراك بالاتحاد الأوروبي.

محلل إعلامي عضو هيئة الصحافيين السعوديين
- جمعية الاقتصاد السعودية



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد