دعونا ندخل في موضوع قد يكون حوله خلاف، ولكن نناقشه بهدوء وبتجرد وبموضوعية للوصول إلى كلمة سواء. الثنائية مقابل الثلاثية أمر موجود حتى في الطرح العلمي الأكاديمي، وفي الطرح العادي، أو في لغة العامة، في الجانبين المادي والمعنوي. كل شيء يقابله ضده، وتعرف الأشياء بأضدادها، هذا أمر لا خلاف عليه: العام والخاص، الكبير،،،
والصغير، الحلو والمر، ما يحس بالحواس وما يدرك بالإحساس.
نبدأ موضوعنا بتساؤل: كيف يعمل القطاعان العام والخاص، هل يعملان بانسجام ومواءمة، بمنافسة شريفة، أو بتعارض وتناحر؟ المعروف أن حركة المحافظين الجدد -كما يسمون على المسرح السياسي- الديني - الاجتماعي الأمريكي- تحولت إلى صناعة وليست مجرد حركة سياسية.
مرت بفترة ما يسمى ب (البريد المباشر) أو (البريد الدعائي) كانت ترسل الرسائل وتطلب التبرعات لهذا المشروع أو ذاك.
ويضرب أوضح مثال على الحملات لصالح قناة بنما، الموصلة بين المحيطين الأطلسي والهادي، اعتبرت تلكم الحملة بداية جنوح المحافظين للتوجه الصناعي - التجاري.
لم تكن مؤسسة كبيرة، بل هي توجه بدأ بسيطا ثم تعاظم مع مرور السنين، ثم تناما فكرا أيديولوجيا في نهاية الأمر.
تعود الفكرة إلى (الفترة الريجنية) نسبة إلى الرئيس الأمريكي ريجن، وتعود إلى تاريخ قبل ذلك، إلى رئيس الغرفة التجارية الأمريكية في عام 1928م، الذي قال ما معناه: (إن أفضل من يقدم خدمة للناس هو أسوؤهم)، ويقولون إنه ليس من الحكمة وضع أفضل الموظفين في القطاع العام، ولو وجد ناجحون في هذا القطاع فسوف يسيطرون على القطاع الخاص من خلال مواقعهم في القطاع العام.
كانت إذن إستراتيجيتهم تتمثل في دفع رواتب أقل للعاملين في القطاع العام حتى لا يتوجه إليه المتميزون من منسوبي الخدمة المدنية.
وينفذ المحافظون الجدد، من خلال بيروقراطيتهم، أجنداتهم السياسية والاجتماعية والتجارية.
ويحارب هؤلاء منسوبي الخدمة المدنية من خلال مواقعهم البيروقراطية لصالح القطاع الخاص، ويؤكد ذلك تدني رواتب القطاع العام، مقارنة بالقطاع الخاص، في عقود مضت، أو منذ الخمسينيات الميلادية. طبعا من يعمل في الدولة له مزايا الأمن الوظيفي والتقاعدي، إذا ما قورن بالقطاع الخاص. وتحول الفكر الأيديولوجي المشار إليه إلى مرحلة إدارة الدولة من خلال القطاع الخاص، كان ذلك انطلاقا من فكرة خصخصة القطاع العام وحمى التوجه نحوها، وروج شعار: (الدولة المبنية على أساس اقتصادي).
ونتيجة لذلك من الممكن أن يعمل موظفان أحدهما من منسوبي (البيروقراطية العامة) وآخر إلى جانبه وفي مكتب واحد يعمل لصالح (الدولة المبنية على أساس اقتصادي). أما سياسة (الباب الدوار) فكانت تؤكد على الدفع بالمتميزين من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ويستمر هؤلاء بولاءات متباينة نحو القطاع العام الذي كانوا يعملون فيه.
وأصبح من المعتاد على العاملين في القطاع العام أن يعطوا العقود للقطاع الخاص للقيام بأعمال كان يقوم بها القطاع العام، في الولايات المتحدة معظم المشروعات الفدرالية، وعلى سبيل المثال مشروعات: إدارة الأمن الداخلي، إعمار ما دمره إعصار كاترينا، الأمن العراقي، جميع هذه المشروعات الفدرالية تعطى للقطاع الخاص.
ويبرر هذا التوجه لتوفير الأموال العامة، والذي حصل عكس ما أريد منه. وأصبح أخذ السلطة من البيروقراطيين وتسليمها لرجال الأعمال موضة العصر التي يدافع عنها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة. وتسعى العديد من دول العالم الثالث إلى محاكاة هذا التوجه شكلا ومضمونا.
أما (سياسة الباب الدوار) فهي العودة للقطاع العام للعمل من خلاله للتوجه نحو السوق الحرة وخفض الضرائب، فمن صالحهم ألا تتقلص الدولة بل أن تستخدم لمصالح القطاع الخاص.
وهنا نقول إنه من الضروري لثنائي مثل هذا أن يكون هنالك جهة ثالثة تراقب تصرفاته وتقرير مدى كفاءته والحيلولة دون أخذ واحد من القطبين الفرصة على حساب الآخر.
في أستراليا هناك مؤسسة فدرالية لقياس الجودة الإنتاجية لإدارات الدولة وتقويم أدائها، وليس الاكتفاء بما تقدمه من تقارير أو تقويم ذاتي دوري. ومن الممكن أن نختم الموضوع بطرح عدد من التساؤلات: هل الحل الوسط يعالج المشكلة؛ بمعنى أن تنشأ مؤسسات تتحرر من البيروقراطية من جهة ولا يكون هدفها محض الربح من جهة أخرى؟، وهل المؤسسات التي تقيمها الدولة من هذا النوع؟، ثم هل تم تقويم أمثال هذه المؤسسات لمعرفة مدى كفاءة أدائها؟، وهل المؤسسات -التي سميت في بلادنا بالعامة- ما هي إلا عبارة عن وجه آخر لعملة واحدة؟، وأهم من ذلك، ما السبيل إلى عدم تعارض المصالح بين القطاعين العام والخاص؟، وهل القطاعان يعمل أي منهما على حساب الآخر؟، أو يمرر كل واحد أموره لصالح الآخر؟، إذن لا بد من برلمانات ذات كفاءة عالية تراقب القطاعين على حد سواء، والله الموفق.