ما زالت ردود الفعل العربية والأجنبية تتفاعل حيال القمة المتوسطية التي عقدت في باريس خلال هذا الشهر التي هدفت بصورة قاطعة إلى التطبيع مع إسرائيل بعد أن عجزت كل الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية في تحقيق إقامة العلاقات العربية - الإسرائيلية مع دول عربية أخرى إدراكا منها، بأن هذه السياسة هي التي تخدم السلام في الشرق الأوسط.
غير أن هذه الردود العربية، أكدت فشل هذه القمة في تطبيع العلاقات العربية - الإسرائيلية بالرغم من الجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي لتبديد الغيوم بين بعض الدول العربية والإسلامية، وإسرائيل خلال هذا المؤتمر، باعتبار أن اسرائيل ما زالت ترفض تنفيذ خريطة الطريق وقرارات الشرعية الدولية وما يواجه أولمرت من اتهامات فساد قد تفضي إلى إقالته بعد أن قرر حزب كاديما إجراء انتخابات مقبلة خلال شهر أيلول لانتخاب قيادة جديدة لهذا الحزب الذي انشق عن الليكود برئاسة ارئيل شارون.
وبعد هذا المؤتمر الذي استطاع ساركوزي أن يجمع به قادة دول ضفتي البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي في باريس، ما يزال الدبلوماسيون والمحللون يرون أن الدبلوماسية الفرنسية نجحت في جمع الـ 44 زعيما وقائدا أجنبيا وعربيا غير أنها وجدت أن هناك معوقات عديدة تواجهها على غرار تجربة مسار برشلونة في عام 1995م.
وكان واضحا أن ساركوزي يريد من هذا المؤتمر إصدار بيان في طبيعة الحال، يؤكد مشاركة الدول في هيئات وأجهزة واحدة، قد تؤدي بالنتيجة إلى تطبيع المسار الشامل مع إسرائيل.. غير أن ذلك ارتطم برفض الرئيس السوري بشار الأسد وعدم لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يسعى إلى مصافحته إيمانا منه بأن إسرائيل ما زالت الدولة الغاصبة والرافضة لتحريك عملية السلام، والقبول بقرارات الشرعية الدولية، وهذا ما دعا الرئيس السوري إلى الدعوة مجددا لأن تلعب الولايات المتحدة وأوروبا دورا رياديا ضاغطا وفاعلا على إسرائيل من أجل القبول بقرارات الأمم المتحدة، وأن لا تواصل سياسة الصلف وقضم الأراضي والاستيطان في الأراضي المحتلة، وتهربها من تنفيذ تفاهمات أنابوليس وحتى مبادرة السلام العربية.. كل ذلك لم يؤد إلى نجاح هذه القمة بين ضفتي المتوسط، فضلا عن أن البيان الصادر عن القمة لم يحقق أيضا للفلسطينيين طموحاتهم وآمالهم بدعم إقامة دولتهم إلى جانب إسرائيل.. وهذا يتطلب مجددا من الدول العربية وضع إستراتيجية جديدة لمواجهة سياسة التطبيع التي تقوم بها فرنسا وبعض الدول، بغية الالتفاف حول قرارات الشرعية الدولية بالتعاون مع إسرائيل التي تواصل مخططاتها العنصرية والعدوانية والاستمرار في بناء جدار العزل العنصري الفاصل ومواصلة الحصار على غزة بالرغم من سياسة التهدئة القائمة حاليا.
ولعل ما كان يردده الرئيس ساركوزي قبل عقد القمة بين ضفتي المتوسط، اختلف عما طرحه في هذا المؤتمر، وقد كان ذلك واضحا عندما سئل الوزير الأول الجزائري السابق عبدالعزيز بلخادم عن المشروع الذي أصبح يحمل اسم الاتحاد من أجل المتوسط، لم يتردد في تذكير مراسل صحيفة (لوموند) الفرنسية بالعاصمة الجزائرية بأن الصيغة التي كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد قدمها إلى نظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في العام الماضي تختلف كثيرا عن الصيغة الجديدة التي جرى ترويجها في قمة الاليزيه.. ومن الفرنسيين أنفسهم.. حيث كانت مبادرة برشلونة التي فشلت انطلاقة جديدة للرئيس الفرنسي، لجعل اللقاء الجديد بمثابة تعويض عن فشل الجهود التي هدفت إلى تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي والتركيز على المشاريع التنموية الكبرى المتعلقة بحماية وتحسين البيئة في المنطقة والاتصالات والطاقة المتجددة والمواصلات.
وهذه المبادرة التي علق عليها الكثير من القادة العرب والأجانب أملهم في حل جوهر الصراع في المنطقة.. كانت على العكس (قمة هزيلة) أثارت انتقادات حادة واعتراضات شديدة من قبل دول أساسية في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا، حيث أشارت المستشارة انجيلا ميركل في تصريحات (نارية) إلى أن المبادرة الفرنسية تهدف إلى تنمية العلاقات بين فرنسا ودول جنوب المتوسط وتوسيع نفوذها داخل تلك الدول التي كانت في معظمها مستعمرات فرنسية سابقة.. وهذا بالطبع ليس السبب المباشر لانتقاد سياسة ساركوزي بل إنه جاء نتيجة لرغبته بعد انتخابه رئيسا لدول الاتحاد، في أن (يسهم الاتحاد الأوروبي عبر دوله السبع والعشرين في تنمية اقتصاديات الدول من ميزانية الاتحاد بدلا من فرنسا)..
واللافت للنظر والمثير للانتباه أيضا في تحفظات بعض الدول العربية وخاصة الجزائر وسورية على المشروع المتوسطي في نسختيه الأصلية أو تلك التي تم (تقليمها) التحفظات التي تتخوف من أن تصبح المشاريع التنموية الكبرى التي يجري الترويج لها من قبل الرئيس ساركوزي غطاء للتطبيع الزاحف مع إسرائيل وفقا لما قاله رئيس الوزراء الجزائري السابق بلخادم.. فالاتحاد الأوروبي أظهر عجزه في السنوات العشر الماضية عن اتخاذ مواقف محايدة وضاغطة على الولايات المتحدة من أجل حل الصراع العربي الإسرائيلي وفشل أيضا في حل الأزمات الدولية ومنها الأزمة العراقية أو أزمة البلقان بل احتاج إلى التدخل المباشر في حل الأزمات عبر الاتحاد الأطلسي.. في العديد من القضايا الساخنة.
والواقع أن الرئيس ساركوزي الذي انحاز عن مبدأ (الديغولية) وكرس نفسه صديقا لإسرائيل كان يسعى من خلال هذا المؤتمر إلى استثمارات داخلية وإن كان حضور الأمس هو قمة ما كان يصبو إليه.. وسورية ليست الهدف الوحيد في عملية الجمع مع أصدقائه الإسرائيليين بل كان يخطط لترطيب العلاقات الخليجية مع إسرائيل، التي ما زالت مترددة في الحديث مباشرة مع الإسرائيليين لرفض إسرائيل الإذعان للقرارات الدولية.
فالقمة كما يقول المراقبون ليست سوى بوابة للدخول إلى مسار طويل يبدأ بالاقتصاد وينتهي بالسياسة التي ستفضي إن آجلا أم عاجلا كما يقول الوزير الفرنسي كوشنير إلى تعاون متوسطي شامل وإلى تعاون إقليمي يسهم في التسوية بالمنطقة وإقامة العلاقات العربية الإسرائيلية بما يحقق السلام المنشود بالمنطقة.
abdqaq@wanadoo.jo