لم يتبق على شهر رمضان سوى أيام، وقد درجت العادة في كل عام أن يتجدد الجدال والنقاش حول الرؤية الشرعية للهلال لدخول شهر رمضان وخروجه، بين القائلين باعتماد الحسابات الفلكية والاستفادة من التقنيات الحديثة لتحديد مطالع ونهاية الشهور الهجرية لأنها الأنسب في العصر الحاضر،
والقائلين بضرورة التأكيد على اعتماد الرؤية لهذا التحديد، ودعوة المسلمين بالاحتساب لترائي الهلال والأخذ بشهادة العدول، وهي الطريقة المتبعة لدى مجلس القضاء الأعلى.
وفي تقديري أن اعتمادنا في أمورنا الشرعية على الأساليب التقليدية الظنية في النتائج دون دراسة متطلبات الواقع الذي نعيشه، والاستفادة من تطورات العلوم والتكنولوجيا والمعطيات العلمية الحديثة والتقنيات المتقدمة من خلال المراصد الفلكية المتطورة التي توفرها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وغيرها من الهيئات العلمية ومراكز البحوث والتجارب في كافة أنحاء العالم، ونتائجها بلا شك قطعية لايحقق المقصود الشرعي لرؤية الهلال، بل إن طريقة إثبات الهلال بالاعتماد على الرؤية فقط دون النظر إلى ولادة الهلال، ودون النظر إلى توقيت غروبه. هل هو قبل غروب الشمس أو بعد غروبه؟ مسألة تحتاج إلى إعادة نظر، ولن يعجز علماء الأمة عن ابتكار الوسائل المتقدمة من أجل تحقيق المقصود الشرعي لرؤية الهلال والاستفادة من علم الفلك الذي يعتبر من أهم العلوم الكونية، ومن أهم وسائل الإثبات في دخول كل شهر وخروجه، ولا سيما أننا نعتمد على علم الفلك في تحديد زمن كسوف الشمس وخسوف القمر ابتداء وانتهاء، وفي تحديد أوقات الصلوات الخمس ووقت شروق الشمس وغروبها والزوال وانتصاف الليل بالدقيقة والثانية.
وقد ذكر أهل العلم المعتبرون ممن يملكون شجاعة الإعلان في عصرنا الحاضر، وعلى رأسهم سماحة الشيخ: عبد الله بن سليمان المنيع- حفظه الله-: أن الشهادة يحتاج قبولها شرطين اثنين، الأول: ثبوت عدالة الشاهد. والآخر: أن تكون منفكة عما يكذبها حسا وعقلا، وهو ما كان محل إشكال، أي: الشرط الثاني، في ثبوت هلال شوال العام الماضي 1428هـ، مساء الخميس ليلة الجمعة، فإن الهلال غرب قبل غروب الشمس بدقيقة، وذلك في آخر موقع في السعودية، وهو مكة المكرمة. فكيف يرى حينئذ بعد غروب الشمس وهو ليس موجودا في الأفق؟
ولذا فإن القول: باعتبار الحساب الفلكي في حال النفي، ورد الشهادة برؤية الهلال قبل ولادته وغروبه قبل غروب الشمس، هو قول كوكبة من علماء الإسلام:كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والقرافي وابن رشد والشبكي وابن سريج وعبد الله بن مطرف وأحمد شاكر و مصطفى الزرقا وغيرهم كثير من علماء المسلمين، وهو ما أكده قرار مؤتمر وزارة الأوقاف المنعقد في الكويت عام 1409 هـ على الأخذ بالحساب في مسألة إثبات دخول الشهر وخروجه، على اعتبار الحساب في حال نفي الحساب رؤية الهلال لغروبه قبل الشمس.
إن الاستمرار بالاحتساب لترائي الهلال والأخذ بشهادة العدول فقط دون الاعتبار لرأي الهيئات العلمية التي لديها علماء ومختصون في علم الفلك وحقائق الكون ودقائقه، واستيعاب تطورات العلم ومستجدات الحياة يدل على عدم الإلمام التام بثوابت علمية أضحت من المسلمات في عصرنا الحاضر، والشاهد على صحتها العديد من الأدلة والبراهين التي نراها ونعايشها كل يوم، وسبق أن أعرب- رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي- أكمل الدين إحسان أوغلو: عن أسفه الشديد لأن الدول الإسلامية احتفلت بأحد أعياد الفطر في أوقات مختلفة. مؤكدا أن العلم الحديث بات يعرض إمكانية حساب أيام الشهر القمري بشكل دقيق. ودعا أوغلو في حديثه المؤسسات الرسمية والدينية في العالم الإسلامي إلى التعاون معها في جهودها لإنهاء الخلاف في التوقيت.
بقي أن أقول: إذا كان ثمة خلاف بين أهل العلم في مسألة ما، واختلفت وجهات النظر، وتنوعت الآراء والاجتهادات، فإني أرجو من ولي الأمر- وفقه الله- أن يحسم موضوع إثبات دخول الشهور القمرية، ولاسيما تلك الشهور المرتبطة بالعبادات. بعد أن وصل النقاش فيها إلى جدال عقيم.
فتأصيلا على القاعدة الشرعية الفقهية التي تنص على أن: (حكم الحاكم يرفع الخلاف). حيث من المقرر أن رأي الإمام ونائبه فيما لانص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادة. قال الزركشي- رحمه الله-: (قالوا حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف). وقال القرافي- رحمه الله-: (حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح في مذاهب العلماء).
وقد ذكرت في مقال سابق: أن سلطنة عمان قد أحسنت حين أعلنت العام الماضي 1428هـ بأن رؤية هلال شوال بعد غروب الشمس- مساء الخميس ليلة الجمعة- متعذرة حسب الحساب الفلكي، والمطلوب هو عدم تحري الرؤية في تلك الليلة، فإلى متى سنستمر باحتساب ترائي الهلال- ولاسيما تلك الشهور المرتبطة بالعبادات-، والا عتماد على رأي وشهادة أشخاص في مقابل عدم اعتبار الحسابات الفلكية والعلمية الدقيقة والقطعية؟.
drsasq@gmail.com