في عهد الملك عبدالله نعيش في عصر جديد حيث (الحوار) هو سيد المواقف، وحيث الرأي والرأي الآخر، وحيث لا أحد يحتكر الحكمة؛ فهي دائماً وأبداً ضالة المؤمن يتلمسها في مظانها، ويحث خطاه للاقتراب منها قدر الإمكان. أما أولئك الذين يدعون أنهم يملكون الحكمة، وأن رؤاهم واجتهاداتهم هي منبع الحقائق، وما على الآخر إلا (الإذعان) لما يقولون فهم يعيشون في عصر آخر لا علاقة له بهذا العهد الميمون.
ولا يستفزني إلا أولئك البسطاء (المتكلسون) الذين يعيشون معنا بأجسادهم، أما عقولهم ورؤاهم، ومعاييرهم، فهي تنتمي إلى عصر قضى وانتهى، حيث كان العالم فئتين: (علماء) و(رعاع) أو من هم في حكم الرعاع؛ وليس ثمة فئات أخرى غير هاتين الفئتين، قد يكون ذلك صحيحاً في الماضي حيث المجتمع البسيط والأقرب إلى (البدائية)؛ أما اليوم، وفي عصر المطبعة، ومن ثم الإنترنت وثورة الاتصالات، ناهيك عن المدرسة والجامعة والتعليم أصبحت (المعرفة) متوفرة للجميع. فالمجتمع المعاصر عبارة عن تروس متعددة في آلة ضخمة ومعقدة، كل سن في هذه التروس يمثل (طيفاً) من أطياف هذا المجتمع، ونمو المجتمع يتوقف على عمل هذه الآلة بفاعلية وتكامل وتناغم بين أجزائها. تعطل - ناهيك عن إلغاء - سن في ترس يعني بالضرورة توقف هذه الآلة، وتوقفها يعني بالمختصر المفيد (التخلف). وعندما يأتي من يعيش (بجسمه) في عصرنا ثم يقسم المجتمع مثل هذه التقسيمات القادمة من الأمس (علماء، ورعاع)، فهو يدين نفسه، ويؤكد تخلفه، قبل أن يدين الآخرين.
وهؤلاء عندما يتحدثون عن العالم من حولهم يتحدثون وكأنهم محور الكون؛ فالجميع (جهلة) وهم العارفون، والجميع ضالون وهم الناجون، والجميع سفهاء وهم الحكماء، والجميع (رعاع) وهم - فقط - العلماء؛ لذلك فما على العالم من أقصاه إلى أقصاه إلا اتباعهم، والاقتداء بهم، والإنصات إلى ما يقولون، ومن ثم تنفيذ ما يصدرونه من (أوامر).
تنصت إلى أحدهم وهو (يتحدث) فتجد أن رؤيته لا تتعدى أرنبة أنفه، ناهيك عن انحدار وعيه، وعلمه، واطلاعه، وثقافته، ولغته، وبلاغته، فضلاً عن محدودية معرفته؛ فتكاد تجن وأنت تسمعه ينصحك - وهو البسيط الساذج - بالاقتداء به، والسير في ركابه، والإذعان لما يقول، وإلا فإنك ستهلك لا محالة!
مثل هؤلاء لا يكتشفون حقيقة واقعهم إلا في الزمان الخطأ؛ وحينما يكون الزمان قد تجاوزهم، فيقبلون اليوم ما كان من المفروض أن يقبلوه في الأمس؛ وعندما يكون الغد أمساً يقبلون ما كان يحمله الأمس من مستجدات، وهكذا دواليك. أشعر أحياناً أن التأخر في القبول هو منهج، وأن (المتريث) الذي يقتاته البطء أو هو يقتات البطء الذي لا يقيم للزمن أي حساب، هو وإياهم وجهان لعملة واحدة، فهم دائماً ما يتخذون (مضطرين) القرار الصحيح ولكن في الزمان الخطأ.
ومن الأمور التي لم يكتشفوها بعد أن العالم الذي نعيشه أصبح أصغر، وأن (الخصوصية) التي كانوا يدفعون بها لتبرير اختلافنا عن عباد الله انتهت بدخولنا عصر العولمة، وأن التنمية والتحديث، ومواكبة العصر، ليست مجرد (خيارات) لنا أن نقبلها أو نرفضها، وإنما شرط ضرورة للبقاء.
وفي تقديري أن ضرورة البقاء تجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما (هؤلاء) وإما التنمية والإصلاح. المزاوجة بين هذا الفكر المتخلف و(التنمية) هي ضرب من ضروب المستحيل؛ حيث إن خلافنا معهم لا يتوقف عند النتائج وإنما في الآليات التي تنتج النتائج، وعندما تصبح المشكلة في الآلية يصبح (التغيير) هو الأولوية التي لا ترتقي إليها أية أولوية في مسيرة الإصلاح. وهنا بيت القصيد من القضية برمتها.