مساكين نحن الآباء، فقد حُمّلنا ما لا طاقة لنا به، وفرض علينا أن نخوض حرباً شرسة وقذرة غير محكومة بقوانين ونظمن لا تكافؤ بين أطرافها؛ ما أبقى في نفوسنا هذه الآهة التي يقفز صوتها في وجداننا قفزاً مستفزاً مؤلماً يشعرنا بالظلم والحزن والإحباط وقلة الحيلة، ويعزز بشكل أو بآخر انقلاب المنطق وتنوع التبريرات والدفوعات لتزداد هذه الحرب ضراوة وتتسع رقعتها لتغطي كل جوانب حياتنا وحياة أسرنا، ويكسب في كل يوم طرفها الآخر الرابع دائماً مناصرين جدداً له بما يمتلكه من أدوات، وما يقدمه من محفزات ومرغبات وتقنية لا نملكها نحن ولا نتمكن من مجاراتها أو الصمود أمامها، حتى لم نعد نستطيع أن نتحكم بالأمور وطبول الفساد تقوى ويرتفع صوتها وتتلون نغماتها، تاركة آثارها البينة على كل أوجه حياتنا، يدقها بإصرار واستماتة كثير ممن يملك القدرة على التأثير وقد جعل المادة هدفاً له، وباع كل شيء لأجلها، ونثر في عالمنا هذا الكم الكبير والمؤثر من المغريات والمحفزات التي تخاطب ميل النفوس لهواها ونزواتها، وتفرض أن ينظر أبناؤنا لما يثبتهم على الطريقة المثلى من قيم ومفاهيم على أنها قيود لا تترك لنفوسهم حرية التحليق في عالم لا قيود فيه، فضاع تأثيرنا وتحجم دورنا وسيطرتنا على من يقعون تحت دائرة مسؤوليتنا؛ فأصبحنا نخسر في أولادنا وفي أسرنا كل يوم شيئاً من قيمنا ومفاهيمنا وعاداتنا وما نتمنى أن يكون عليه مستقبل حياتنا.
نحن كآباء مطالبون بمتابعة أطفالنا، وتقنين كل المؤثرات التي يتعرضون لها، كدور نحن نؤمن به ونحرص عليه، لكن غيرنا في المقابل يسعى بكل ما أوتي من قوة وجهد ومال إلى أن يحدث في عالمنا مؤثرات لا حدود لها فيها من الإبهار والإقناع ما فيها، بدءاً بالألعاب التي يتسلى بها أطفالنا التي تفرض عليهم استباحة كل شيء وتطبيع كل ما يخالف قيمنا، ومروراً بأفلام الكرتون التي يتعلمون منها ما يبعدهم عن ثقافتنا وعن الأسس التي قامت عليها مجتمعاتنا، وانتهاءً بتعليمهم التمرد على كل شيء تحت مبررات ومفاهيم ظاهرها الترويح عن الطفل وإشباع فضوله ومحاكاة خياله، وباطنها غرس التحلل من كل القيم واستمراء العنف والضلال والانحراف كمدخل للوصول لغايات أبعد من هذا بكثير.
ونحن أيضا مطالبون بمتابعة أبنائنا في كل مراحل أعمارهم، فإن كان ما نواجهه في مرحلة الطفولة لأبنائنا أمراً يستحيل علينا ضبطه وتقنينه لكثرته وتنوع وسائله وأساليبه، فالحديث عن مراحل المراهقة وما تعنيه هذه المرحلة يفوق بمراحل ما استنفره الضالون لمرحلة الطفولة، فهذه الشبكة المعلوماتية تزخر بكل القبيح الذي يدعو للفجور والشذوذ وقلب المفاهيم التي كانت تبغى لهذا العالم أن يعيش استقراره وأمانه، وهذه القنوات الفضائية التي تحترف المجون وتسوق له، وهذه البرامج حتى الحوارية منها تبث لأبنائنا في سن مراهقتهم ما يعزز في نفوسهم حجم التباعد والتفرق في مناهجنا، وتسوق بغطاء شعارات الحرية وحقوق الإنسان للغرائز وما يثيرها، وبغطاء مفاهيم مختلفة يسوق للتصحيح والجهاد؛ فيتحول أبناؤنا إلى إرهابيين يعتقدون أنهم يحملون الصلاح لغيرهم، وتحت شعارات التطور والتقدم أصبح لكل أمر منطقه الذي يقوم عليه ومناصروه، فانحسرت الثوابت وما يضبط الأمور، وأصبحت كل الطرق سالكة لتفكك أسرنا وضياع أبنائنا.
بعد هذا لا أدري كيف سنتمكن نحن الآباء من الصمود وقد اصطف الجميع لمحاربتنا، بعدتهم وعتادهم ومن خلفهم قوانين عالمية ترعاهم وترعى مصالحهم، ولا أدري كيف سنضبط الأمور والقيام بما يفترض أن نقوم به وخصمنا، بل خصومنا مقتدرون يبدعون كل لحظة في فرض ما يريدون بتقنية عالية ومرغبات طاغية، ليحققوا غاياتهم ويسلبوا من أبنائنا أجمل ما فيهم دون أن يجدوا ما يردعهم أو من يردعهم، ولا أدري من أين نأتي بالقدرة لنكون في كل مكان ونواجه تيارات لا نقوى عليها تصبينا وإن أغلقنا علينا بيوتنا، على أننا على الرغم من هذا وفي كل حوار أو محاضرة، ملامون؛ لأننا لم نحسن متابعة أبنائنا لنصونهم من نزوات أهل زماننا وما يحدثونه من دمار.. منطق لا أفهمه.. والله المستعان.