ورد في لسان العرب لابن منظور: القلم: الذي يكتب به، والجمع أقلام وقلام.. القلم: السهم الذي يجال بين القوم في القمار، وجمعها أقلام. وفي التنزيل العزيز: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}؛ قيل: معناه سهامهم، وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة. قال الزجاج: الأقلام ههنا القداح.. وإنما قيل للسهم القلم لأنه يقلم أي يبرى. وكلما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته؛ من ذلك القلم الذي يكتب به، وإنما سمي قلما لأنه قُلّم مرة بعد مرة. |
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم، قال عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (1) سورة القلم. |
وللقلم دور أساسي في الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ، فقد سطر الإنسان به كتبه السماوية، وثقافاته الفلسفية والعلمية والمعمارية. |
ونحن هنا نتتبع ما قاله شاعرنا المتنبي عن القلم، وما هي مراميه ومقاصده من هذا، لأن ما يخط ويكتب بالقلم هو مرآة فكرية للكاتب بالقلم. قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن أحمد الخراساني: |
خَبَتْ نارُ حَرْبٍ لم تَهِجْها بنانُهُ |
وأسمَرُ عُريانٌ من القِشْر أصْلَعُ |
نَحِيفُ الشَّوَى يعدو وعلى أم رأسِهِ |
ويحفى فَيَقْوى عَدوُهُ حين يقطعُ |
يمجُّ ظلاماً في نهارٍ لسانُهُ |
ويُفهَمُ عمنْ قال ما ليسَ يُسْمَعُ |
ذبابُ حُسام منه أنجى ضريبةً |
وأعطى لمولاه وذا مِنه أطوعُ |
فَصيٌ متى ينطق تجد كلَّ لفظةٍ |
أصولَ البراعاتِ التي تتفرعُ |
كأن شاعرنا المتنبي يلغز في أبياته هذه، فهو في بيته الأول جعل كل نار حرب من غير يد ممدوحة وقلمه مطفأة لا تطول مدتها، وأراد بالأسمر القلم وجعله أصلع لملاسته بسبب القشر، فهو كالرأس الأصلع الذي لا شعر فيه، ثم وصف هذا القلم فهو نحيف الشوى - نحيف دقيق الأطراف- يعدو على أم رأسه - أصله-، فإذا حفي من كثرة الكتابة به، قطع رأسه وبري فيحسن الخط به. وقد ورد في شرح العكبري لهذا البيت: القلم يعبر عن ضمير الكاتب، وقد قيل: القلم أنف الضمير، إذا رعف كشف أسراره، وأبان آثاره، وأضاف أبو الطيب، أن لسان هذا القلم - طرفه المبري- يمج - يقذف- ظلاما- حبرا، مدادا- في نهار- يريد القرطاس-، ويفهم عمن قال ما ليس يسمع أي أن هذا القلم بما قذفه من مداد على القرطاس عبر عما يريده الكاتب من غير سماع منه؛ وبين أبو الطيب أن الضرب السيف قد ينجو منه الإنسان، أما من ضرب بالقلم فقد لا يسلم إذا كتب بالقلم هلاكه، لأن القلم أطوع من السيف لصاحبه، لأنه لا يرجع عن غرض الكاتب به، أما السيف فقد ينبو عن المضروب ويعصي الضارب؛ وبين المتنبي أن القلم فصيح متى ينطق فإنك تجد أن كل لفظة تلفظ بها، أصل من أصول البراعة - الكمال في الفصاحة- والناس يبنون كلامهم عليها. وقال أبو الطيب أيضاً في قصيدة يمدح بها أحمد بن عبدالله الأنطاكي: |
ما دار في الحنك اللسانُ وقلبتْ |
قلماً بأحسنَ من نثاك أنامِلُ |
لقد ربط أبو الطيب في بيته هذا بين ما يقال من مدح باللسان، وما يكتب من مدح بالقلم، والنثا: الخبر. ونثوت الخبر: أظهرته. وهنا يمكن أن يقال، إن ما يقال باللسان قد ينسى بعد مدة قصيرة أما ما يكتب بالقلم فقد يضل لفترة طويلة. وقال أبو الطيب أيضاً في قصيدة يعاتب بها صاحبه سيف الدولة: |
فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني |
والضّربُ والطعنُ والقرطاسُ والقلَمُ |
وصف أبو الطيب في بيته هذا نفسه فقال: الخيل والليل والبيداء والضرب والطعن والقرطاس والقلم كل هذه الأشياء تعرفني، فالخيل تعرفني لحذقي في فروسيتها، والليل يعرفني لكثرة سراي فيه، والبيداء - الفلاة المقفرة- تعرفني باستمراري لقطعها، والضرب السيف، والطعن بالرمح في الحرب يشهدان بحذقي بهما، والقراطيس- الكتب- تعرفني لإحاطتي ومعرفتي بما فيها، والقلم يعرفني بإبداعاتي فيما يقيده نقول: لقد مات وهلك المتنبي منذ عشرات السنين، ولكنه لا يزال حيا بما أبدعه ودونه بقلمه. وقال المتنبي أيضا وقد أنفذ رجل إلى سيف الدولة أبياتا يذكر أنه رآه في النوم يشكو الفقر: |
كُنتَ فيما كتبته نائمَ العي |
نَ فهلْ كنتَ نائمَ الأقْلام |
أيها المشتكي إذا رقد الإع |
دامُ لا رقدةً مع الإعدام |
افتح الجفنَ واترك القولَ في النو |
م وميز خطاب سيف الإمام |
لقد ربط أبو الطيب في أبياته هذه بين فكر الكاتب والقلم، فالكاتب عندما يكتب بقلمه ما يريد أن يقوله يلزم أن يكون فكره مركزاً على ما سيكتبه، فالمتنبي سأل الرجل، هل فيما كتبه من شعر لسيف الدولة هل كتبه وهو نائم العين أم نائم الأقلام، لأن المعدم والفقير يطرد فقره نومه عن عينه، فكيف قدر على النوم مع العدم والفاقة، ولهذا نصحه أبو الطيب أن يفتح عينيه ويصحح قوله، ولا يخدع بالأحلام نفسه، ويميز ما يخاطب به سيف الإسلام- سيف الخليفة، سيف الدولة-، ولا يخاطبه بما يخاطب به سائر الناس. وهنا كأن أبو الطيب قال للرجل: لكل مقام مقال. وقال المتنبي أيضاً في قصيدة أخرى يمدح بها علي بن أحمد الخراساني: |
وكفتكَ الصفائح الناسَ حتى |
قد كفتك الصفائحَ الأقلامُ |
لقد بيّن أبو الطيب في بيته هذا أن الصفائح- السيوف (وهي رمز للقوة) قد تحفظ الإنسان من شر الناس، وعندما يتم له ذلك فقد يستغني بأقلامه عن سيوفه، عندما خاف الناس من بطشه بسيفه. وهنا يتضح لنا أن ما يكتب بالأقلام قد يردع العدو إذا كان الحال مقروناً بقوة. وقال أبو الطيب المتنبي أيضاً في قصيدة يذكر فيها مسيره من مصر: |
حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي |
المجدُ للسيفِ ليسَ المجد للقلَمِ |
أكتُبْ بنا أبداً بعد الكتاب به |
فإنما نحنُ للأسيافِ كالخدم |
أسمعتني ودوائي ما أشرتِ بهِ |
فإن غَفلتُ فدائي قلةُ الفهمَ |
من اقتضى بسوى الهنديّ حاجتهُ |
أجابَ كلّ سؤالٍ عنْ هل بلم |
لقد بين أبو الطيب في بيته الأول أنه رجع إلى بلده وقد عرف وعلم وجرب أن المجد ينال بالسيف- بالقوة- لا بالقلم لأن القلم- ما يكتب به من شعر وغيره- لا يفعل شيئاً بدون سيف- قوة- تحميه، هذا ما قالته له أقلامه التي أضافت قائلة له: أكتب بنا ما تريد قوله من شعر بعد أن تكتب بالسيف، لأن الأقلام كالخدم للسيوف - لمن يملك السلطة والقوة-، وعندما سمع أبو الطيب هذا القول من أقلامه، قال لها: لقد سمعت قولك هذا، ودوائي من علتي هو ما أشرت به علي، ولكني غفلت عن هذا ولهذا فدائي وعلتي قلة الفهم، لأن من طلب المجد بغير السيف يجيب سائله عن قوله: هل أدركت أهدافك بقوله: لم أدرك. ومن أبيات المتنبي هذه نتبين أن ما يكتب بالأقلام، وما يقال في المنابر - حتى على مستوى الدول- لا جدوى منه إذا لم يسند بقوة فاعلة. |
أ. د. عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي |
الرياض: 11642 - ص.ب: 87416 |
|