Al Jazirah NewsPaper Wednesday  06/08/2008 G Issue 13096
الاربعاء 05 شعبان 1429   العدد  13096
تحت ظلال (دارفور)
اعتقال (كاراديتش) لتبرير محاكمة (البشير)!
محمد بن عيسى الكنعان

يجول في ذهني سؤال بريء على خلفية مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الرئيس السوداني عمر البشير عن مزاعم إبادة وجرائم حرب في دارفور، وأقول (بريء) حتى لا يتهمني المتأمركون وأفراخ التبعية الغربية بمرض (نظرية المؤامرة)

الذي يرمون به كل من يتوجس من مواقف الغرب غير المنصفة أو يشكك في أهدافها، والسؤال هو: ألا يشير تزامن اعتقال زعيم صرب البوسنة رادوفان كاراديتش إلى علاقة غير مباشرة مع السعي الغربي لمحاكمة البشير؟ خاصةً أن مجرم الصرب الذي تلاحقه الأجهزة الأمنية الصربية والمخابرات الغربية منذ 13 عاماً بتهمة قيامه بجرائم حرب في حق مسلمي البوسنة، خاصة مذبحة (سربنيتشا) التي جرت تفاصيلها المروّعة عام 1995م تحت سمع ونظر القوات الدولية (الهولندية)، قد استطاع النجاة والتخفي وممارسة حياته الطبيعية لدرجة انتحال شخصية دكتور في الطب البديل داخل حدود دولة صربيا، بل الأدهى من ذلك أن هناك تقارير صحافية تشير إلى أن هذا المجرم الصربي كان في حماية إحدى القوات الدولية التي كانت موجودة في إقليم البوسنة لمدة ثلاث سنوات تقريباً.

ألا يعتبر هذا الاعتقال (المسرحي) من قبيل ذر الرماد في العيون، الذي تمارسه الحكومات الغربية لتبرير سعيها عن طريق محكمة الجنايات الدولية لإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة في إقليم دارفور (غرب السودان)، بمعنى أنها رسالة إعلامية مسيسة تقول إننا نسعى لتطبيق العدالة الدولية بمعاقبة مجرمي الحروب على حد سواء، فها نحن قد لاحقنا كاراديتش كل هذه السنين إلى أن تم اعتقاله لتقديمه للمحاكمة، بينما الواقع الدولي بكل قضاياه الساخنة وإفرازاته، يثبت أن الغرب يتعامل مع كل الأزمات العالمية والكوارث الإنسانية ب(مكيالين) وفق مصالحه العليا وعلاقاته الدولية، ففضلاً عن أن اعتقال مجرم الصرب هو بالأساس شرط لانضمام صربيا للاتحاد الأوروبي، فإن الغرب (المتحضّر) قد سكت عن إرهابيين دوليين ومجرمي حروب كانوا يتلذذون بقتل الأبرياء وبالذات الأطفال أبرزهم إريل شارون بطل مجزرة صبرا وشاتيلا الفلسطينية وقانا اللبنانية، بل ما موقفه من المذابح التي ارتكبها ويرتكبها الجيش الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، التي تبرر ب(الخطأ غير المقصود) أو النيران الصديقة، كما أن هذا الغرب الذي وضع معايير عجيبة لمفهوم السلام قد منح ياسر عرفات جائزة نوبل للسلام بعد أن كان إرهابياً في سجلاته (الإنسانية) سنين طويلة، فقط لأنه ركب قطار التسوية. إذاً القضية لا تقف عند شخص الرئيس السوداني، بل تتجاوزه إلى العبث الغربي في الوطن العربي، والهيمنة الاستعمارية على العالم الإسلامي، تحت نظرية تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، ليسهل مسخ هويته وتغيير تركيبته وفق المطامع الغربية المتلاقية مع المصالح الصهيونية.

السودان اليوم هو الهدف الغربي الجديد وفق مجريات الواقع، خاصةً أنه خارج فلك الحلف الأميركي الغربي بسبب علاقاته الروسية والصينية، ومواقفه السياسية على المستوى العربي والصعيد الإسلامي المتعارضة مع السياسات الأميركية في المنطقة، كما أن إقليم دارفور يتمتع بمصادر غنية للطاقة هي مطمع للدول الكبرى، فالنفط فيه يقدّر ب(سبعة مليارات) برميل ومخزون عنصر اليورانيوم يوازي ثلث ما في العالم، زد عليه الثروة الحيوانية وحقول القمح والقطن وإنتاج الصمغ العربي، لهذا تعمل الحكومات الغربية على إذكاء نار الحروب والصراعات من جهة ومن جهة أخرى اللعب على وتر حقوق الإنسان وجرائم الإبادة والتطهير العرقي لإدخال هذا البلد العربي الأصيل نفق الفوضى الأمنية ليسهل تقسيمه، ومن ثم السيطرة على حوض النيل، فضلاً عن قطع الطريق على تدفق الاستثمارات العربية الزراعية لاستغلال الأراضي السودانية الخصبة التي تعد سلة غذاء العالم، وعليه تكون الأسئلة حاضرة عن أبعاد أزمة دارفور وخلفياتها التاريخية، التي صارت شماعة الغرب في قضية محاكمة البشير، فما هي دارفور؟ وكيف نشأت أزمتها؟ وأين حدود مسؤولية الحكومة السودانية؟

يُنسب إقليم (دارفور) إلى قبيلة (الفور) الأفريقية العريقة في الإسلام، وقد انضم إلى السودان عام 1917م، ويقع في الجزء الغربي من الرقعة الجغرافية للسودان مشكلاً خمس مساحته (20%)، وتحد الإقليم من الشمال الغربي (ليبيا)، ومن الغرب (تشاد) ومن الجنوب الغربي (أفريقيا الوسطى)، وينقسم إلى ثلاث ولايات رئيسة، ولاية شمال دارفور وعاصمتها (الفاشر)، وولاية جنوب دارفور وعاصمتها (نيالا)، وولاية غرب دارفور وعاصمتها (الجنينة). عدد سكان دارفور قرابة (6 ملايين) غالبيتهم مسلمون إن لم يكن جميعهم، وتركيبته السكانية تتشكّل من قسمين.. (قبائل مستقرة) في المناطق الريفية والزراعية مثل الفور وهم السكان الأصليون، والمساليت والزغاوة وغيرها، وغالبية هذه القبائل (أفريقية)، القسم الثاني (قبائل مرتحلة) أي التي تنتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن المرعى والماء، أشهرها الرزيقات والمحاميد وبني حسين وغيرها وغالبية هذه القبائل الرعوية (عربية). هذه القبائل العربية والأفريقية تتداخل في ما بينها بعلاقات اجتماعية قوية وروابط نسب تاريخية مشكلةً مجتمعاً متجانساً ومتماسكاً، غير أن إقليم (دارفور) لم يسلم من الحروب والصراعات التي انتهت إلى الأزمة القائمة والكارثة الإنسانية الحالية، فقد بدأت إرهاصاتها عندما تعرّض الإقليم لمجاعات متتابعة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، بسبب فترات الجفاف والتصحر، فنزحت أعداد كبيرة من القبائل المرتحلة (الرعوية) من شمال وجنوب الإقليم إلى وسطه، حيث خصوبة الأرض حول جبل مرة، ومع مرور الأيام وقع الاحتكاك بين القبائل النازحة والأخرى المستقرة أدى إلى صدامات مسلحة ونزاعات عنف كان يتم احتواؤها عن طريق الأعراف القبلية السائدة، لكن بحكم ارتباط الإقليم بحدود مفتوحة مع دول أخرى، فقد انعكست الصراعات المسلحة في تلك الدول على استقراره، حيث تأثر بالصراع التشادي الليبي، والتشادي التشادي، الذي نتج عنه تدفق الهجرات التشادية إلى السودان بأعداد هائلة تقدّر ب(3 ملايين) نصفهم في دارفور، كما أن الأحداث والحروب في أفريقيا الوسطى انعكست بشكل سالب على دارفور، فانتشر فيه السلاح بشكل كبير وخطير، من هنا تجدد الصدام بين القبائل العربية والأفريقية وأحياناً في ما بينها في ظل البحث المتواصل عن الموارد الطبيعية ومحاولات السيطرة على المناطق الخصبة، غير أن الصراع الحقيقي في الإقليم بدأ في الثمانينيات الميلادية في مناطق (جبل مرة) الخصبة، بين قبائل عربية شكلت تجمعاً معيناً عرف ب(التجمع العربي) بدعم من حزب الأمة، في مقابل قبائل (الفور) الأفريقية، التي حاولت بعث الحياة في حركة (سوني) التي كانت قد أسست منظمة عسكرية سرية عام 1965م، لكنها فشلت في مهدها، مع ذلك توصل الطرفان إلى اتفاقية صلح برعاية الحكومة السودانية، إلا أن الصراعات القبلية عادت بشكل أشد عام 1992م في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية، بين القبائل العربية والأفريقية، فاعتبر إقليم دارفور (منطقة تمرد واضطراب) بسبب ثورة داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية، الذي انضم خلال فترة التسعينيات إلى حركة قرنق التي تقاتل القوات الحكومية في الجنوب، ثم قيامه بقيادة مجموعة من المقاتلين للسيطرة على جبل مرة وإعلان انضمام الفور للتمرد، إلا أن الحكومة استطاعت استنفار القبائل العربية والأفريقية فقضت على الحركة، ليتطور الصراع أكثر عام 2002م بإعلان الحركة المسلحة لأول مرة باسم (جيش تحرير دارفور)، هنا تحول الوضع من صراع قبلي إلى تهديد عسكري داخلي لسيادة السودان ونظامه السياسي ووحدة أراضيه، كما دخلت القبائل التي سبق أن شكلت (التجمع العربي) على خط المواجهة بين الحكومة والمتمردين، هذه المواجهة وصلت أوجها في أحداث مدينة الفاشر عام 2003م.

خلال مراحل هذا الصراع ظهرت قوة عسكرية عُرفت ب(الجنجويد) من قبيلة الرزيقات العربية، التي قاتلت ضد قبائل الفور والزغاوة، فوقعت حروب بين الطرفين انعكست على مجمل وضع الإقليم الأمني، فسقط الأبرياء في سياق هذه الأحداث العسكرية. استغل الغرب ما جرى في دارفور وبدأ ينسج أكاذيبه بوجود حرب إبادة وتطهير عرقي من قبل الحكومة السودانية عن طريق قوات (الجنجويد) قدّر ضحاياها بمئات الآلاف من القتلى، فتم تدويل الأزمة بدعم غربي مقابل ضعف عربي، إلى أن اتفقت حكومة الخرطوم مع الأمم المتحدة على نشر قوات حفظ سلام مشكّلة من دول الاتحاد الأفريقي وقوات دولية، على أن لا تكون بينها قوات دول معينة أبرزها الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي لم يرض الغرب كون رياح الأزمة سارت بمراكب الحكومة السودانية فصعّد القضية باتجاه محكمة الجنايات الدولية.

الاستعراض السابق وإن كان مقتضباً يكشف أن أزمة دارفور في أصلها (صراع قبلي) على مناطق المرعى والمياه، وعندما تحولت إلى حالة تمرد عسكري يهدد وحدة السودان تدخلت الحكومة بمسافة واحدة مع جميع الأطراف، وهذا حق لكل دولة في حفظ أراضيها، مع مراعاة أن الحكومات السودانية السابقة وليست الحالية وحدها، تتحمل جزءاً من المسؤولية، من حيث إهمال التنمية الشاملة في الإقليم، لكنها مسؤولية لا تصل إلى اتهامات الإبادة الجماعية، التي تلفقها الحكومات الغربية ويطير بها إعلامها لتبرير مشروع الهيمنة على مقدرات السودان سعياً لتقسيمه.



Kanaan999@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد