هناك جدل يتردد بين الحين والآخر داخل أروقة الثقافة وخارجها، ويشتعل أواره في أذهان بعض شرائح النخب المثقفة معظم الأوقات، يزعم الموالون له أن هناك محنة تضرب أطنابها في فسطاط الثقافة المحلية، مما يؤثر سلباً في مخرجاتها، لكن أولئك الموالين لم يجمعوا على تعريف لهذه المحنة، فمنهم من عرفها بأنها الهوة بين الإرث الفكري المحلي السائد.. والفكر الوافد من ديار الغرب، وافتقار ساحة هذا الفكر إلى صحوة إبداع تعيد له توازنه بين التيارات المتضادة، وتمنحه الانتماء السوي إلى هوية هذا العصر وتحدياته.
= =
* وهناك من عزا المحنة إلى تلوث العقل المعاصر بمباهج الحس المادي، مستشهداً على ذلك بشريط الفيديو وفورة (الدش) وتقنية ال(سي دي) وال(دي في دي) وغير ذلك من متع السمع والبصر، وأن هذه التقنيات باتت أكثر رواجاً من الكتاب.. وأسعد حظاً من رفقته، وأثرى عائداً من عطائه!
= =
* وهناك من يتداخل مع هذا الجدل من صوب آخر فيقول إن محنة الثقافة هي ثمرة التراجع في معايير التربية.. منهجاً ومضموناً، حتى صار الظفر يُمنح لمن يستظهر النص.. لا لمن يستوعبه تأملاً وتحليلاً واستنتاجاً! وأن هذا يسهم في التزهيد بقيمة الكتاب سيد الأوعية الثقافية مجتمعة، ويحرض عليه إساءة للظن به وانصرافاً عنه!
= =
وهناك من قد لا يرى فيما ذكر سبباً أو تعريفاً أو تشخيصاً لمحنة الثقافة، بل قد لا يرى أن للثقافة محنة أصلاً.. وأن ما كتب أو قيل في هذا الشأن ليس إلا غباراً افتعلته أعاصير العقول المضطربة.. فزعمت أن هناك محنة.. وخلعت عليها من الأوصاف ما شاءت.. لتوهم من توهم بأن لها قضية.. ممثلة في ما أسمته (محنة الثقافة!).
= =
* أما أنا فإنه بالرغم من تعاطفي مع بعض الأفكار التي سلف ذكرها، وخاصة ما يتعلق بالدور السالب للتعليم وفشله أن يكون حليفاً للثقافة ورديفاً لها، فإنني من جانب آخر لا أخفي أو أنكر حيرتي وانشطار ذهني بين بعض الفئات الأخرى المتجادلة، زاعماً أنني لا أدري إن كانت محنة الثقافة تستحق كل هذا العناء من الجدل.. والجدل المضاد مفرغاً من نتائج يركن إليها العقل.. وتأنس بها النفس، أم أن الهم الحقيقي للثقافة، كما أراه هو غياب (صحوة) تفجر روافد الذهن إثراءً للثقافة إبداعاً وانتشاراً.
= =
* وبمعنى آخر، أزعم أن محنة الثقافة في بلادنا هي أنها تفتقر إلى حراك أدبي ومعلوماتي كبير يفتت تلال الجليد في أرجائها، ويضخ الإبداع في شرايينها، ويخرجها من عتمة (الشللية) و(المماحكات) الفردية والجماعية المفرغة من الابتكار والتجديد، ليكون عطاؤها مثيراً وشاملاً، ويكون حصادها قبساً منيراً لجيلنا الشاب المؤهل لدخول حلبة الإفصاح عن هويته، أدباً وإبداعاً!
= =
* هذا ما أتمناه أن يتحقق للثقافة ممثلاً في صحوة فكرية تخلصها من (محنة) الجمود وتنفض عنها غبار التبلد، وتنقلها إلى سفوح العالمية إنتاجاً وإبداعاً وانتشاراً!!