في زمن الاستفاقة الكبرى لم تكن أوروبا على علم بالوجهة التي تغذ السير إليها. كان حاديها وسط حشود الجهل الرغبة العارمة في تمزيق الظلام الذي يشل الرؤيا ويمنع من تبين الطريق. الشيء الذي لم يره بعضنا من تاريخ النهضة الأوروبية هو دور الصحف والدوريات وخصوصاً تلك الصحف العابرة للقارة التي أسهمت بشكل واسع في تشكيل بذرة التقدم والتفوق الأوروبي على العالم. يكشف تاريخ النهضة الأوربية أن وسائل الإعلام (الصحف تحديداً) أسهمت بدور بارز في تطوير المعرفة ونقلها وتبادلها بين شعوب القارة الصاعدة رغم أن الصحف في تلك الفترة تواجه نفس الأعراض التي تواجهها الصحف العربية كالرقابة والرياء وغير ذلك, لكنها تبقى كما هي حالنا الصحفي عامل مهم في تشكيل الوعي ودفعه إلى مداه.
تمارس الصحف دوراً مؤثراً بيد أنه من الصعب أن نرى في مجرى الحياة اليومية ذلك التأثير الذي تمارسه في بناء الإنسان وتأسيس وعيه الشمولي. نعيش مع نمو الوعي الذي تلقيه الصحافة في داخلنا كما نعيش مع أطفالنا الذين ينمو وعيهم وفهمهم للعالم دون أن نلاحظ ذلك, فالمعارف والمعلومات والأفكار تنمو في داخلنا كأنها جزء من التجربة الشخصية المكتسبة من الحياة اليومية.
الاعتياد اليومي على الجريدة يضيفها إلى الحياة الروتينية كالذهاب إلى العمل أو الجلوس مع الآخرين. عندما تقرأ تاريخ الصحافة في أوروبا في القرن الثامن عشر سوف تدهش من كمية التأثير الذي أحدثته في البناء الحضاري. نحن نعيش نفس المستوى الحضاري الذي كانت تعيشه أوروبا في القرن الثامن عشر لكن من الصعب أن ننظر إلى أنفسنا ونحن نعيش. لا يمكن قراءة تاريخ اليوم وغد والأحداث التي نعيشها طالما أنها قائمة لم تكتمل أو أن تأثيرها مازال حيّاً. ما يعيق إدراكنا لأهميتها هو الكليشيهات التي نرددها دون تبصر. كلمات مثل (كلام جرائد) تعطي انطباعاً أن الجريدة في أساسها مصدراً ثابتاً للسخف والأخبار المغلوطة أو أداة لبث الإشاعات وهز قناعات المجتمع. قد تكون كذلك في جانب منها ولكنها في أصلها شيء أكثر من ذلك. مع الأسف ننقل عبر الترجمة كل شيء دون تدقيق كاف فيما ننقله. مثل هذه الاتهامات للصحف لا تصح كثيراً على الصحف العربية وخاصة السعودية. فالحرية الصحفية المحدودة في العالم العربي لا تمسح بترف توفير صحف صفراء كما هو الحال في أوروبا وأمريكا وبالتالي لا يمكن فهم قولنا (كلام جرائد) في صناعة الصحافة العربية. قراءة للصحف السعودية وتاريخها تؤكد أن الصحف السعودية كانت غالبا أداة تنوير حاسمة. فأساس تشكلها كان على أيدي المثقفين وأصحاب الرأي واستمرت كذلك حتى يومنا هذا حتى مع دخول المحترفين الذين يغدقون جهودهم على المهنية على حساب المحتوى.
قراءة في سيرة معظم الكتاب وموجهي الرأي في الصحف سنلاحظ أن بينهم عدداً مؤثراً من التنوريين والبنائين. التفاته تاريخية بعد عشر سنوات لما يحدث الآن سوف تكشف لنا هذه الحقيقة. إلى اللقاء بعد عشر سنوات.
Yara.bakeet@gmail.com