11سبتمبر 2001م هو التاريخ الذي أراده صنَّاع القرار الأمريكي أن يكون فاصلاً في تاريخ البشرية المعاصر، ورأينا كيف فضحت سلوكيات المحافظين الجدد ميزان القيم الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً، وكيف تحولت دولة الحريات والديمقراطية إلى دولة بوليسية تنتهك حقوق الإنسان بأبشع صورة، وعلى مرأى العالم ومسمعه.
لقد آن لأولئك الذين طالما أشادوا بالديمقراطية الغربية، واعتبروا أمريكا أرقى ما يُجسدها في عصرنا الحاضر، أن يسألوا ويُجيبوا بصراحة عن جملة من الأسئلة التي أفرزها عالم ما بعد 11 سبتمبر.
هل لا تزالون تعتبرون أمريكا هي نموذج القيم والحريات الديمقراطية في العالم، بعد فضائح غوانتنامو وأبو غريب وغيرها؟ وكيف نُفسر السلوك الأمريكي أخلاقياً، ما دام الحديث عن الديمقراطية والحرية أمراً يعتبره الفلاسفة الغربيون أخلاقياً بالدرجة الأولى؟
وهل تُخوِّل الحرية والدفاع عن القيم الغربية قتل ملايين الناس في فلسطين والعراق وأفغانستان، والقفز على (الشرعية الدولية) وخوض حروب مدمرة رغم أنف العالم بأجمعه؟ هل بقي شك في أن الدين والتدين لعبا دوراً في صنع السياسات والمواقف وكسب التأييد أمام الرأي العام الأمريكي؟ وهل صحيح أن إدارة بوش أرادت بمساعيها محاربة الإرهاب؟ فلماذا نشهد إذن (صحوة إرهابية) في العالم اليوم، وأصبحت حتى الدول التي لم تعرف الإرهاب من قبل تحوي جماعات جديدة تفجر نفسها وتقتل الأبرياء المسلمين باسم الجهاد وطرد الغزاة الصليبيين واليهود؟ وهل تعتقدون أن العالم اليوم أصبح أكثر أمناً وأقل رعباً، أم أن أمريكا لم تنجح في إخماد جذوة الفتن المشتعلة بقدر ما نجحت في إذكائها وعولمتها؟
هل اتسع نطاق الحريات في أمريكا والغرب عموماً أم ضاق، بحيث صارت وكالات الأمن القومي تتدخل وتتجسس على شعوبها وتتنصت على مكالماتهم بدعوى تجنب الإرهاب واستباق مناوراته؟ وهل عاشت الأقليات الدينية غير المسلمة عبر 14 قرناً من حكم الإسلام في دول علمانية أم في دول تحكم بالشريعة، ومن حفظ حقوق الأقليات: النظام الإسلامي عبر التاريخ، أم النظام الغربي الذي شرّع للجرائم باسم الحرية والديمقراطية؟
لقد رجعت أمريكا نفسها للتدين واتخذته شعاراً لمناوراتها السياسية: فبوش غزا العراق وأفغانستان باسم (الحرب الصليبية)، وهو يعتقد أن نشر المسيحية ومحاربة الإسلام واجب ديني مع أن المصلحة كانت - ولا تزال - محركه الأساسي. وها هو باراك أوباما، مرشح الحزب الديمقراطي، يصول ويجول اليوم في حملته الانتخابية ويؤكد على أهمية دور الكنيسة والمؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي.
في دراسة كتبها والتر راسل ميد تحت عنوان: (هل هي بلدة الرب)؟ (مجلة شؤون خارجية عدد سبتمبر- أكتوبر 2006)، ذكر قائلاً: (لقد كان للدين دائماً قوة كبيرة في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن التصاعد الكبير مؤخراً لعدد ونفوذ الإنجيليين قد أعاد تشكيل الوضع السياسي بدرجة دراماتيكية، حيث أُقحمت التصورات الدينية في تسيير الشؤون الخارجية).
وفي دراسة مثيرة أجراها باحثان أمريكيان، حاولا الإشارة إلى التداخل بين السياسية والدين في الولايات المتحدة الأمريكية، فقالا: (لقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءاً من جورج واشنطن فصاعداً على الحس الديني، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضاً لتأييد الأهداف الرئاسية... وكما توضح الأمثلة المذكورة أعلاه، فإن الدين والسياسة شكَّلا نسيجاً متداخلاً عبر تاريخ الولايات المتحدة منذ الفترة الاستعمارية وحتى وقتنا الحاضر).
فما هو الفاصل اليوم بين التدين والسياسة؟ وما هي حدود الشريعة في مواجهة الواقع؟
لقد انتكست القيم الإنسانية عندما تخلت عن الوحي المعصوم، واستحكمت فيها الغرائز والشهوات، فكانت النتائج هذا الدمار الشامل الذي نشاهده يومياً.. إنها (فوضى مدمِّرة) وليست (فوضى خلاقة) كما بشِّر بها الساسة الأمريكيون.. ولهذا لن يكون الحل اليوم في مواجهة معركة القيم إلا بالرجوع لهذه القيم نفسها.. القيم الأصيلة التي رسخها الإسلام وجعلها ميزة للشخصية الإسلامية.. ومن دون ذلك، فلن يكون سوى الدمار: التطرف والإرهاب من جهة، والتحلل والتميع وبيع الأوطان من جهة أخرى.. وكلاهما قسمة ضيزى.
وفي ظل هيمنة التدين على الساسة الأمريكيين من المحافظين الجدد وما أفرزته عاصفة 11 سبتمبر من تداعياتها وآثارها على الأنظمة والشعوب نتأمل ونتساءل:
هل وصلت العاصفة الأمريكية إلى ذروة قوتها، وبعد 11 سبتمبر بدأت تتراجع حدتها بعدما استنفدت كثيراً من مخزونها الداخلي وعنفوانها الذي تغذَّى طويلاً على إثارة العواطف الغربية واللعب على حبل الديمقراطية والدفاع عن الحريات المهددة واحترام حقوق الإنسان؟
إننا نطرح هذا السؤال ونحن على بُعد 5 سنوات من احتلال بلاد الرافدين، لنتابع حقيقة الوعود الأمريكية التي أطلقتها عشية غزوها للعراق وإطاحتها بنظام صدام حسين.. وعود تمحورت في مجملها حول القضاء على (معسكر الشر) وجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً حتى يكون بمنأى عن الهجمات الإرهابية مستقبلاً، دون إغفال طبيعة العلاقات المتداخلة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تنتج ولا تزال مساندة سافرة لإسرائيل في الاتجاهات كافة، ويتجلى بعض ذلك في الحملات الانتخابية الأمريكية التي يتسابق المرشحون فيها إلى الظفر بأصوات اللوبي الصهيوني المتجذر في صناعة القرار الأمريكي.
إن نظرة متأنية إلى الوضع في العالم كله اليوم، ثم استذكار ما كان عليه قبل تاريخ 11 سبتمبر، يكشفان لنا بجلاء ما جرته السياسة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط خاصة، والعالم عامة.
لقد كان الهدف الأمريكي المعلن من سلسلة (الحروب الوقائية) التي شنها المحافظون الجدد ضد أفغانستان والعراق، هي تخليص العالم من الظلامية وتجفيف (منابع الإرهاب)، لكن الواقع أثبت بعد سبع سنوات من هذا التاريخ الذي أريد له أن يكون نقطة تحول تاريخية أن هذا الهدف الأمريكي قد تحول إلى النقيض تماماً، لأن جميع ما تذرَّعت به أمريكا ازداد تفاقماً وانعكس سلباً وجعل العالم يغرق في بحر من الدماء والفتن والتطرف والفوضى، ولكنها ليست (الفوضى الخلاقة) التي روج لها صقور البيت الأبيض، وإنما (فوضى مدمرة) عصفت بالأرواح وألحقت بالعالم الخراب والدمار والهلاك.
لم تنجح سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في جعل العالم أكثر أمناً، لأن الدراسات الحديثة تكشف كل يوم عن نتائج مخيفة تتعلق بمستقبل البشرية، على الصعيد السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وتكشف بجلاء أن العالم صار مغرقاً في التطرف لأسباب عدة، وأن آليات التواصل صارت قليلة - أو شبه منعدمة - في زمن الاتصال والقرية الكونية الواحدة!! وقد فسحت السياسة الأمريكية الممعنة في العنجهية والتسلط الباب واسعاً أمام أنواع شتى من التطرف، باسم العقيدة حيناً، وباسم المصالح أحياناً أخرى.
وحتى كبار الساسة والمفكرين والكتاب الأمريكيين دخلوا معترك النقد وبدأوا يتبرأون من الخيارات السياسية والاقتصادية التي سلكها الرئيس الأمريكي جورج بوش، وذلك بسبب نتائجها الكارثية على الولايات المتحدة بالدرجة الأولى قبل غيرها من دول العالم.
أمريكا إذن فتحت بسياساتها المتهورة جرحاً عميقاً في قلب المجموعة الدولية، فهي التي احتلت العراق بقرار انفرادي تسلطي لم يوافق عليه مجلس الأمن، وهي التي أسقطت نظام الرئيس صدام حسين وغذت الأحقاد الطائفية وميليشيات الموت والقتل على الهوية، وهي التي تورطت في العراق اليوم وهي تشهد خسائرها الكبيرة، إلا أنها تعتبر هذه الخسائر من باب مخاطر الاستثمار، لأن الوضع في العراق اليوم وثروته النفطية المتدفقة تُعتبر أفضل استثمار في عالم قفز فيه سعر البترول لأول مرة في التاريخ فوق عتبات المائة دولار بكثير، ويتجه نحو المائة الثانية.
لقد حاولت السياسة الأمريكية منذ البداية الظهور بمظهر الضحية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م.
يومها، كتب منظرو السياسة الأمريكية وصانعو الرأي العام من مشاهير الكتاب وقالوا إن على أمريكا أن تواجه ما وصفوه (الخطر الإسلامي) بحزم وقوة وقسوة، واعتبروا أنهم هوجموا لأول مرة من عدو خارجي منذ حادثة بيرل هاربور الشهيرة بناء على عقيدة الصراع بين الخير والشر، وأن الأمريكيين يمثلون الجانب الخيّر في الإنسان في مواجهة الجانب المظلم فيه، والمتمثل في الحضارة الشرقية بصفة عامة، وعلى رأسها الإسلام.
هل كان هذا السلوك الذي حمل بذور الانتقام واستغلال الظروف لتصفية الحسابات مجرد عاصفة أمريكية، أم مجرد عاصفة أثارها جملة من الأصوليين الأمريكيين وجعلوا الشعب الأمريكي يتحمل تكلفتها المالية وتبعات الكراهية، في حين يتحمل العالم العربي والإسلامي تكلفتها البشرية والنفسية، في عالم نجح في تصوير المسلمين على أنهم مصدر الشر في الكون.. بينما تظهر الوقائع أنهم لم يتجاوزوا دور الضحية فقط!!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 8300 ثم أرسلها إلى الكود 82244