إن كل أمة من أمم المعمورة تحرص جاهدة على حماية كيانها وتوفير أمنها بما يجعلها تحتل مكان الصدارة بين الأمم ويكفل بقاءها مرهوبة الجانب منيعة الحمى، ولن يتأتى لها ذلك إلا بوجود مقومات حياتية تضمن لها الاستمرار والبقاء وتساعدها على الازدهار والارتقاء، وتعتبر القوة العسكرية
في مقدمة هذه المقومات، بوصفها أحد مقاييس التقدم، وبفضلها تحافظ الأمة على استقرارها وازدهارها واستمرارها. وقد قال مكيافيللي: إن القاعدة الأساسية لكل الأمم هي قوانين عادلة وقوة عسكرية فاعلة.
وهذه القوة العسكرية لم يعد التفوق فيها يقاس بين الأمم بالطريقة التقليدية المعروفة حيث إنه بالأمس كان النصر حليف القوة الكثيرة العدد، أما اليوم فإن الكيف رجحت كفته بكفة الكم، وأصبحت نوعية الأسلحة وكثافة النيران والسيطرة على عاملي الوقت والمسافة لها القدر المعلى واليد الطولى في مسارح الحرب على المستوى التقليدي، فكيف إذا ما عُزّزت هذه القوة التقليدية المتفوقة بالسلاح النووي الرادع الذي يمنع وقوع الحرب أو يؤخر وقوعها، ويختصر فترة الإعداد لها، وإذا ما وقعت قصّر أمدها وحسم نتيجتها، مضيفا إلى عنصري المفاجأة ومحدودية الوقت عنصر المجازفة المسؤولة التي يؤمن فيها الطرف البادئ بمقدرة خصمه على الانتقام حاسباً لذلك حسابه وواضعاً الأمر في نصابه.
ومن هذا المنطلق فإن الإعداد والاستعداد لحرب نووية لا يمكن أن تقع والمحافظة بذلك على نوع من التوازن بين القوى المتصارعة أفضل وأجدى من توفير الشروط وتهيئة الظروف المناسبة لحرب ممكنة بالوسائط التقليدية، حيث إن تكرارها يزيد من مرارة وقعها، وضعف قدرتها على البقاء والرد يقلل من درجة ردعها.
ومن أعظم ما يميز الردع النووي أنه جعل من فن الحرب قاعدة ومنطلقاً لفن منع الحرب، حيث إنه يمكن أن يكون وسيلة ناجعة تحول دون اعتداء الأقوياء على الضعفاء، كما تمنع توسع الكبار على حساب الصغار، لأن كسب الحرب والفوز فيها لا يسمى نصراً حتى يكون الربح أكبر من الخسارة، والمعتدي دائماً يوازن بين المغنم والمغرم، أما المعتدى عليه فتدفعه عدالة القضية وروح التضحية إلى الرد على العدوان بالمثل ومواجهة الباطل بالحق، مهما كانت التكاليف باهظة والنتائج موجعة.
ومن الواضح أن أي صراع نووي بين قوتين كبيرتين ومتماثلتين سوف يكون شبه قاتل للطرفين، الأمر الذي يصبح معه مثل هذا الصراع بلا معنى، إذا ما قيس بالعواقب الوخيمة التي ستنجم عنه؛ إذ إن اللجوء إلى القوة على المستوى التقليدي وتصعيد الصراع في هذا الاتجاه، قد يستفيد منه الطرف المنتصر، أما في ظل الوضع النووي فلم يعد الحال كذلك، حيث أصبحت الخسارة في جميع الحالات أكبر من الفائدة وصارت الحرب رهاناً خاسراً.
ومن جهة ثانية فإن القوى النووية الصغرى التي يتوفر لديها عامل مصداقية وفي مكنتها استخدام سلاحها تستطيع أن تسعى إلى تحقيق حالة من الردع المحدود وما يترتب عليه من قدرتها على أن تمارس تأثيراً كبيراً على بعض جوانب الاستراتيجية الشاملة على المسرح العالمي، ومهما تأخرت عن مجاراة الكبار في التطوير والتحديث وتخلفت عن مسايرة آخر أنماط الرؤوس النووية ووسائل نقلها فإنها تحظى بقدر معين من أمن التهديد من جانب والاستقرار النفسي والمعنوي من جانب آخر.
وترتيباً على ذلك فإنه عندما تضطر دولة صغرى أن تمارس الردع أمام دولة كبرى، فإنها تجد نفسها مرغمة بإقناع القوة الكبرى أن أي عدوان تقوم به هذه القوة ضد أهداف عسكرية سوف يكلف كثيراً لأن القوة الصغرى ليس أمامها إلا توجيه ضربتها إلى السكان المدنيين انسجاماً مع الواقع وانعدام البديل.
ومن هنا فإن القوة الرادعة الصغيرة، تشكل تهديداً قائماً من الصعب تجاهله، ناهيك عن أن ما يحدث من هذه القوة من ممارسة فعلية قد يفتح الباب على مصراعيه لتدخل القوى النووية الكبرى، وما يعنيه ذلك من أن السلاح النووي للصغار ربما يكون الشرارة التي تشعل النار بين الكبار، ومن ثم الزج بالجميع في أتون حرب نووية شاملة.
وبما أنه لا يوجد دولة من دول العالم إلا ويحيط بها جيران ولها أصدقاء وأعداء وترنو إلى مطامح معينة، وفيها مطامع للآخرين، تبعاً لموقعها الجغرافي وحجمها الاقتصادي وثقلها العسكري ووزنها السياسي ورصيدها العلمي والثقافي وموروثها الديني والحضاري، وما لها من تأثير في محيطها الأممي والإقليمي ومجالها العالمي، فضلاً عن تحالفاتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية وما لهذا كله من مردود إيجابي أو سلبي على أمنها واستقرارها ومكانتها العالمية.
وإذا ما توفر لهذه الدولة رادع وطني يجمع بين القوة التقليدية الفاعلة والنووية الرادعة عندئذ يتحقق لها أمن من التهديد مهما كان لها من الأعداء والمناوئين، مما يجبر خصومها على التحول من المواقف المناهضة إلى نوع من الصداقة التي تقوم على التعامل بالمثل وتبادل المصالح بعيداً عن الانسياق وراء غرور التفوق في القوة وما يقود إليه من تطلعات ومطامع.
وهذا الرادع الوطني يحصن الدولة إلى حد ما من الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية ويجعلها في مأمن عن استفزاز الأعداء وابتزاز الأصدقاء والتبعات المترتبة علىعدم وفاء الحلفاء، كما يكفل لها في الوقت نفسه أمناً من التهديد المسلح الذي تتعدد مظاهره وتتنوع أشكاله، وبذلك يحصل للشعب درجة من المناعة ضد التهديدات الخارجية والحرب النفسية نتيجة لارتفاع المعنويات والاطمئنان النفسي والروح الوطنية العالية، مع الأخذ في الحسبان أن التوازن والاستقرار يظلان أمراً نسبياً، فالقوة الرادعة تستمد قوتها وضعفها ممن يمتلكها فقد تكون في يد البعض واهنة مترددة ليس لها وزن، في حين تكون في يد البعض الآخر فعالة وحازمة.
وبقدر قدرة الدولة على ردع غيرها وتجسيد هيبتها وحفظ كرامتها في الوسط الدولي، بقدر ما تستطيع مواجهة التهديد الموجه لها من الخارج من خلال ما يتوفر لها من مقومات أمنية وحصانة نسبية، تمكنها من اكتساب أمن التهديد بصورة إيجابية تعود على الوطن والمواطنين بالأمن والأمان، والذي يبني أمنه على سياسة ردع العدوان لا يمكن أن يكون هو البادئ بالعدوان إلا في حالة التهديد المباشر للشعب والأرض وعدم تناسب القوى، والردع هو الورقة الرابحة والثمرة اليانعة للتهديد في حين أن الاستخدام الفعلي هو الملاذ الأخير، كما أن الأمن الناجم عن هيبة القوة ورد فعلها المنتظر وقت الحاجة لا يعني تهديدها لأمن الآخرين بل يؤكد قدرتها الهجومية الرادعة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم ولإيراد المثال من أعلى ذروة من ذرى الردع فإن النزاع بين الغرب والشرق على تقاسم النفوذ في العالم، وما سيطر على هذا النزاع من التهديد الردعي المتبادل طيلة العقود الأولى من النصف الأخير من القرن الميلادي الماضي، تلك العقود التي استحكمت فيها حالة الحرب الباردة من جانب واستولى هاجس الحرب الشاملة على تفكير أطرافها من جانب آخر، وما واكب ذلك من سباق التسلح المحموم والاستقطاب الدولي إلى الحد الذي دفع بكل طرف من طرفي النزاع إلى أن يتربص بالطرف الثاني من خلال رصد التحركات ونقض السياسات وفرض المواقف وإشعال الحروب والصراعات المتوسطة والمنخفضة الشدة بالوكالة، علاوة على التوسع في النفوذ والاستقطاب، وهذه الأمور التنافسية والحالات الاستقطابية لم تقتصر على اليابسة فحسب، بل تجاوزتها إلى الفضاء وقيعان البحار والمحيطات حتى بلغ التصعيد إلى الدرجة التي كاد التنافر فيها يصل إلى درجة متقدمة من التناحر؛ الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة الأمريكية أن تتبنى سياسة حافة الهاوية واستراتيجية الانتقام الجسيم، وبعد أن تحقق لها ما تريد من الردع واتجهت نحو التفوق تحولت إلى الردع المتدرج، وبمجرد أن تأكد لقطبي الصراع أن بإمكان كل منهما القيام بالانتقام وتوجيه الضربة الثانية وأصبح الموقف يسمح للمعسكر الغربي بالرجوع عن حافة الهاوية في ظل تعادل الردع، لم يبق أمامهما إلا الأخذ بمفهوم الاستراتيجية الشاملة التي تنظر إلى السلاح النووي على أنه أداة للردع مع ارتباط درجة الاستقرار بالحالة الفعلية لميزان هذا الردع وإيصاد الباب في وجه التصعيد النهائي نحو الحرب الكونية.
ورغم استمرار هذا الوضع حتى مشارف نهاية القرن الماضي إلا أن تصعيد الولايات المتحدة لسباق التسلح بدءاً من العسكرة الكاملة للعلوم وتعريجاً على مبادرة الدفاع الاستراتيجي أو ما يعرف بحرب النجوم وصولاً إلى الدرع الصاروخي، وتسخير القوة الاقتصادية فيما يخدم القوة العسكرية وما نجم عن هذا السباق غير المتكافئ من انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم واعتبارها القوى العظمى الوحيدة في حين تحول الرادع السوفيتي من رادع قوة عظمى مضاد لأمريكا إلى رادع وطني روسي.
والمثال الآخر يتجسد في شبه القارة الهندية، حيث استطاعت دولة الباكستان كسر الاحتكار النووي الهندي، مما وفر لها الردع المتبادل مع خصمها اللدود بعد عدة حروب طاحنة، الأمر الذي أتاح لها فرض واقع جديد استطاعت من خلاله المحافظة على أمنها واستقرارها، وهذا الواقع يكشف بجلاء أن التفوق العددي لم يعد هو المعيار للقوة، بل في مكنة أية أمة تمتلك الرادع النووي ولها القدرة على استخدامه أن تردع خصمها وتبطل مفعول قوته لقاء إقناعه بأنها مصممة وقادرة على الانتقام للدفاع عن الحرية والذود عن الكرامة، على النحو الذي يدرك معه المعتدي أن الانتقام سيكون قدراً محتوماً، وأن قوة رد الفعل كفيلة بتحويل المغانم إلى مغارم والأرباح إلى خسائر.
ولتأكيد القيمة الحقيقية للتهديد ومردوده الأمني لابد من التطرق إلى الكيان الصهيوني والنظرية الأمنية، إذ لم يكرر هذا الكيان كلمة في قاموسه اللغوي أكثر من تكراره لكلمة (الأمن) التي دأب المجتمع الإسرائيلي على ترديدها والربط بينها وبين مجالات الحياة المختلفة.
والواقع أن التركيز على الأمن يعتبر هو سبيل هذا الكيان إلى تحقيق الكثير من المكاسب وتحييد العديد من المتاعب، فالقدرة العسكرية المتفوقة تدرأ عن شعب إسرائيل الخطر المحدق وتقيه من الإبادة المزعومة، وبالتالي يحصل له الاستقرار والأمن المنشود، وتعزيز هذه القدرة بالقدرة النووية خير ضمان لذلك، كما أن الأمن يشكل عاملاً من عوامل الجذب التي تساعد على الهجرة إلى إسرائيل والاستيطان فيها في منأى عن أي تهديد أمني.
ونظراً لاعتماد الدولة الصهيونية على أمريكا ودول الغرب فإن دعوتها إلى الأمن تعني الدعوة إلى الاعتماد على الذات والحد من الركون إلى الغير، ولن يكفل لها شيئاً من الاكتفاء الذاتي على الصعيد الأمني مثل حصولها على السلاح النووي الذي يجد فيه زعماء إسرائيل مخرجاً من الاعتماد على الأمريكيين، وما لذلك من تأثير على القرار الصهيوني.
ولصغر مساحة إسرائيل ومحدودية عمقها الاستراتيجي وكثافة سكانها، فإن الرادع النووي المجرد عن الاستخدام يعوض عن هذه النقائص، كما أن استخدام السلاح النووي فعلياً في صورته الاستراتيجية ضد أهداف القيمة المضادة يلتقي مع عملية الردع في هذا الاتجاه، وغاية ما تنشده اسرائيل وتتطلع إليه أن تصل إلى أهدافها التوسعية، وتكتمل لها الدائرة بالتوصل إلى السلام وإنهاء النزاع مع العرب بناء على تهديدها النووي وفرض الأمر الواقع الذي ترغبه عن طريق القوة النووية إذا تعذر فرضه بالقوة التقليدية.
ونخلص من كل ما سبق أن الذي يتوفر له الرادع النووي يتحقق له نوع من الأمن بفضل مقابلة التهديد بتهديد مثله، على النحو الذي يوفر له الوقاية الردعية، وبقدر ما يشكل هذا التهديد أمناً على مصدره بقدر ما يردع الطرف المضاد ويجسد تهديداً له، أما تهديد الأمن من طرف واحد وذلك في غياب الردع أو التعويل على حماية الغير ومظلته الردعية، فهذا قدر الضعيف، والحديث يطول في هذا الجانب وهو موضوع المقالة القادمة.