ولا شك أن كورانسيه الذي يكتب تقاريره السرية لحكومته وبني جلدته كان يسعى إلى تقديم ملحوظات دقيقة ويحاول رسم صورة واقعية من وجهة نظر غربية عن حياة الشرقيين من خلال معايشته لها.
ولن نتوقف عند كثير من الجوانب التي تحدث عنها كورانسيه الذي يسهب في تحليل كثير من السلوكيات الشرقية، وعلى رأسها علاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقة الأبناء بالوالدين، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والعلاقات الاجتماعية بأنواعها.
أما فيما يتعلق بالعلاقة الزوجية فقد عقد مقارنة غير موضوعية ونظر إلى قوامة الرجل على المرأة عندنا على أنها نوع من الاستعباد والاستبداد الشرقي، لجهله بحقيقة القوامة وحقوقها الشرعية.
وأول ما يطالعنا به في ملحوظاته عن العرب ما يقوله عن اللباس الشرقي الذي يربط بينه وبين الكسل، فيقول: (وتلتف حول أجسادهم كيفما اتفق أجود أنواع الأقمشة والأصواف الكشميرية التي لم تفسد شكلها طريقة اللبس الغريبة، إن ذلك الطابع الفضفاض والبساطة تضفيان على ملابسهم أناقة خاصة). لكنه يستدرك قائلاً: (ولكن تلك الأناقة تعيق سهولة الحركة؛ إن الزي الشرقي هو زي الأبهة والراحة، والزي الأوربي هو زي الحركة والحرب).
ويقول في موضع آخر: (فالأوربيون يرمون من وراء تحسين مظهرهم إلى أن يكونوا محببين، والشرقيون لا يرون في مظهرهم إلاَّ وسيلة لفرض أنفسهم وزرع رهبة في نفوس الآخرين..).
وأعتقد أن الكاتب محق في ذلك، علماً أنه كان يتحدث عن الزي الشرقي قبل مئتي سنة، أما لو رأى عناية شبابنا اليوم بأشمغتهم ومرازيمها وتنسيقاتها التي تأخذ من الشاب الكثير من الوقت والجهد، وتعوق المرونة اللازمة لأداء كثير من الأعمال، فماذا عساه أن يقول؟.
أما عن رأيه في الزواج بشكل عام فيمكن الوقوف عليه من قوله: (فالزواج في فرنسا حالة من حالات الحرب، يسعى فيها كل من الطرفين إلى فرض سلطته على الآخر، ومن هذا التسابق يتولد القلق، والخلاف والمآسي التي تخيم على الحياة الأسرية لدينا. أما في الشرق فالرجال أكثر سعادة وأكثر حكمة، فإما أنهم تنبأوا بمساوئ الارتباط الأبدي الذي إذا قام على المساواة فإنه يحمل في تلك المساواة نفسها بذور الشقاق الذي يتجدد كل يوم، وإما أنهم بكل بساطة استخدموا قانون الأقوى، وعرفوا كيف يتغلبون على مصاعب الزواج بوسيلة ستجدها النساء الأوربيات بلا شك أكثر سوءاً من السوء نفسه).
وللأسف أن كورانسيه هنا قد أغفل أثر الجانب الديني الذي يحكم حياة المسلمين وينظم العلاقات الأسرية، وغاب عنه أن ما لدى المسلمين من حكمة وصلاح في هذا الأمر لا يعود إلى ذكاء واضعي الأنظمة والقوانين البشرية، وإنما هو من حكمة الشارع وهو الخالق الخبير بما يصلح للمخلوقين، وأن ما يشوب العلاقات الأسرية والزوجية من أخطاء وميل أحياناً؛ فإنه من ممارسات ينقصها العدل والحكمةً، فلا ينبغي أن تحسب تلك الأخطاء على الشريعة الإلهية، وإنما هي من تصرفات البشر وعدم التزامهم بما رسمه الدين الحنيف، ولذلك فلا غرو أن يشطح هذا المفكر الفرنسي وأمثاله في تفسيرهم للظواهر السلوكية لأهل المشرق فينسبونها إلى العوامل المناخية، أو غيرها. حيث يقول بهذا الصدد: (ففي بلد تؤجج فيه حرارة الجو الغرائز، وتغيب فيه الأفكار المتحررة، والتعليم المتقن، يصبح من الصعب جداً السيطرة على تلك الغرائز المتأججة). (وللحديث صلة).