سيدي ووالدي.. أسأل الله أن تكون اليوم على خير ما تحب..
فاضت روحك الطاهرة إلى بارئها، ورأيت رأي العين شطر حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون). رحلت آمناً مطمئناً -بإذن الله- إلى دار لا نصب فيها ولا صخب. في مقعد صدق عند مليك مقتدر. رحلت ووجهك كالقمر المنير والابتسامة تعلو محياك.
منذ نعومة أظفاري تعلمت أن والدي ليس ملكاً لي. تعلمت أنه شخصية عامة لكل الوطن. تمردت على تلك الفكرة حينا وأحياناً. ولكني لم أجد بداً من الاستسلام لها حين رأيت ولع والدي -رحمه الله- في خدمة الناس وفي خدمة المسلمين. ومع ذلك لم نكن نشعر بفقدانه في البيت. كان كثيراً ما يدرسنا دروسنا شخصياً في أيام الجمعة. وكثيراً ما وجدت أنه بالرغم من غيابه عن المنزل من أجل عمله الرسمي، إلا أنه على علم تام بكل صغيرة وكبيرة تحدث فيه. كان هناك ود وتوافق يضرب به المثل بينه وبين والدتنا أطال الله في عمرها. سألته الممرضة في المستشفى يوماً: هل تحس بتسارع في نبضات القلب؟ فأجاب قائلاً: ليس بأسرع من نبضات قلبي عندما أنظر إلى أم هاني..!!
كثيرة هي جوانب شخصيته المضيئة -رحمه الله-. قال لي أحدهم: والدكم في مجلس الشورى كحمامة سلام يشع الحب أينما غدا أو راح. وقد ملأ جوانبنا حباً لكل شيء نعمله سواء في عبادتنا أو دراستنا أو علاقاتنا العائلية أو أعمالنا. دائماً ما يوصينا ويذكرنا: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
كان مفهوم الإحسان عنده - رحمه الله- أن كلا منا، في يوم من الأيام، سوف يقف أمام الله سبحانه وتعالى يسأله يوم الحساب. فكان يوصينا قبل القيام بأي عمل باستحضار تلك الفكرة. ويوصينا بأن نسأل أنفسنا: هل عندنا جواب يقبله منا الرب الذي لا تخفى عنه خافية جل وعلا؟ فإذا كان عندنا الجواب فنقدم على الفعل وإلا فنؤجر على تركه إن شاء الله. كان -رحمه الله- متشرباً بهذا المفهوم. وكان يطبقه طبيعياً وبدون تكلف. حتى أحبه الله سبحانه وتعالى ووضع حبه في قلوب العباد. قال معالي المهندس عبدالله الحصين: (لم أر رجلاً في حياتي أجمع الناس على حبه مثل المهندس محمود طيبة. صغيرهم وكبيرهم. قويهم وضعيفهم. الكل أجمع على حبه رحمه الله).
كان -رحمه الله- يرى أن كل ثانية في حياة المسلم مكتوبة محسوبة. إما له وإما عليه. فاختار -رحمه الله- أن تكون ثواني حياته محسوبة له بقدر المستطاع. بالكلمة الطيبة. بالفعل الحسن. بالتبسم في وجه من يلقاه. بالتواضع الجم لله. بالأعمال الخيرية. بتقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلن. بإحسان النية في الناس وفي كل عمل يعمله. بقيام الليل وحسن العبادة. يعلق آية قرآنية في بيته يقرأها على الدوام: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
كثيراً ما تحدث الناس عن حادثة الرشوة التي رفضها - رحمه الله- ولكن الذي لا يعلمه الكثيرون أنه لم يكن ينوي حتى إخبارنا بالقصة لولا إلحاح الوالدة الكريمة عليه قائلة: (ليتعلموا منك ويفخروا بك). فرواها لنا باستحياء بالغ. كان ينظر إلى كل ما يقوم به من عمل رسمي على أنه واجب. وأنه من الطبيعي القيام به. وأن هذا لا يستحق -من وجهة نظره- أن يتحدث عنه. فكل ما في الموضوع أنه أدى واجبه المطلوب منه. أما الأعمال الخيرية فكان -رحمه الله- ينظر إليها على أنها أجر قد ساقه الله إليه. فكان يحرص على البعد عن الحديث عنها. حتى لا يقع في عجب أو غرور. أو مخالفة الرياء. أو تجده دائماً يتجاهل شخصه ويرد الفضل إلى الكثير من المحسنين الذين قاموا معه وعاونوه في القيام بالعمل. رحمك الله يا والدي رحمة الأبرار.
دخلت ذات مرة إلى مبنى جمعية الأيتام في مكة المكرمة لحضور اجتماع الجمعية العمومية. فرأيته يحمل كرسياً ينقله من مكان إلى مكان. فأسرعت إليه أريد أن أحمله عنه. فرفض رفضاً باتاً وأمرني بالذهاب والجلوس. حتى أني أحسست شيئاً في نفسي من ذلك. فصارحت الوالدة الكريمة فيما بعد. فقالت لي: يجب أن تفهم والدك. فهو يعمل ذلك رغبة في الثواب فلا تحرمه الأجر. قلت لها: ولكن الجمعية مليئة بالمعاونين ممن يسرهم أن يقوموا بذلك العمل. وهو من هو. رئيس مجلسهم. وكبيرهم سناً. قالت لي: كل هذا وأكثر لا يهم بنظر والدك. كل هذا عرض زائل من أعراض الدنيا. ولن يبقى إلا العمل الصالح وهو الذي أراده والدك. فلا تحرمه الأجر. أسر لي ذات يوم من حوالي عشرين سنة: كم تمنيت لو أنني ابتدأت المشاريع الخيرية منذ زمن بعيد. رحمك الله يا والدي رحمة الأبرار.
كانت له نظرة في زكاة الجاه. فقد رزقه الله جاهاً. فرأى أن من واجبه تأدية حق الله في هذا الجاه. فكان - رحمه الله- يبذله في أعمال الخير. لا يضيره من أغلق بابه في وجهه. وفي نفس الوقت كان يحرص أشد الحرص على أن لا نستخدم جاهه في أمر يعود علينا بمنفعة. أذكر مرة أنه تحادث هاتفياً مع رئيس الشركة التي كنت أعمل فيها بعد تخرجي في الجامعة وطلب منه أن لا يعاملني أي معاملة خاصة وأن يحرص على أن أكتسب خبرة مثلي مثل غيري من موظفي الشركة. وأذكر مرة أني رسبت في السنة الثانية ثانوي في مادة الفيزياء لظرف خاص قد يمر به الكثيرون. فتحدث معه مدير المدرسة قبل صدور النتيجة وأخبره بالأمر واقترح عليه أن يأخذ من علامات المواد الأخرى ويضيفها لمادة الفيزياء حتى لا أرسب. وعزز المدير اقتراحه بأنني قد استحققت تلك الدرجات على أية حال. فرفض الوالد -رحمه الله- رفضاً باتاً وقال لمدير المدرسة: دعه يرسب. أنا أريد من هاني أن يتعلم أن لا يسمح للظروف التي قد تمر به في حياته أن تؤثر على تحصيله العلمي.
وفي ذلك اليوم. يوم الأربعاء. اليوم الذي توفي فيه -رحمه الله- دخلت إلى غرفته بالمستشفى صباحاً. وتملكني شعور قوي بأن ذلك اليوم هو اليوم الموعود. فلم يكن يتعاطى معنا بالكلية. رافضاً حتى رشفات ماء كنا نسقيه إياها من وقت لآخر. وكانت عيناه شاخصتان إلى أعلى. تملكني إحساس قوي بأنه - رحمه الله- إما أنه كان يدعو الله أن يأخذ أمانته. وإما أنه كان ينتظر ملكاً قادماً. عندها فقط. تجرأت وأسررت للوالدة الكريمة برؤيا كنت قد رأيتها منذ شهور عديدة. ومن قبل أن أعلم بمرض الوالد -رحمه الله- تفيد بأن الوالد سوف يغادرنا إلى دنيا الحق بملابس الإحرام.
سرى في تلك الغرفة الصغيرة جو من التسليم التام لأمر الله. تناوبنا أذن الوالد - رحمه الله- كل منا يسر له بما وفقه الله به. من قرآن أو دعاء أو ربما أحاسيس ومشاعر. قرأت له الرقية الشرعية. ثم وجدتني أقرأ في أذنه {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ. أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}ثم من باب (أنا عند حسن ظن عبدي بي) أسررت في أذنه: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً. كنت واقفاً على جانبه الأيمن ويدي تمسح على رأسه. وأختي الدكتورة وفاء كانت على جانبه الأيسر تمسح بيدها على قلبه وصدره. وباقي أبنائه وأحفاده من حوله. وكنا نقرأ من القرآن ما تيسر. أو نسر له بالشهادتين. شعرنا بأن تنفسه -رحمه الله- قد تباطأ. فنظرت إليّ الدكتورة وفاء فأومأت إليها أن ليس بعد. وبعدها بدقائق قليلة توقف النفس. وفي هدوء غريب خرج والدنا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. دخل إلى عالم الآخرة في هدوء كما كان يدخل قلوب محبيه في هدوء.
سيدي ووالدي. لقد كنت في دنيانا على خير ما نحب وأكثر. كان الإحسان في العمل سمة من سمات شخصيتك التي أحبها الكثيرون. فأسأل الله جلت قدرته أن تكون اليوم على خير ما أحب من قال في محكم كتابه و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}