عُرف أرسطو بين تلاميذه ومحبيه وعارفيه.. بلقب الأستاذ (المعلم الأول).. وعَرَف تلاميذ.. ومحبو.. وعارفو محمد بن عثمان الركبان بلقب (الأستاذ) إجلالاً وتقديراً منهم له على ما بذله في سبيل جيل كامل قام على تربيتهم وتعليمهم عندما كان يُعلِّم ثم يدير مدرسة المجمعة الابتدائية.. ثم بما حاز من سمعة طيبة تجاوزت مدينته عندما كان يُكلف من وزارة المعارف بالإشراف الشخصي على افتتاح المدارس الجديدة في البلدات المجاورة.. وما تبع ذلك من ترشيحه مديراً للتعليم.. إلا أن الحرس الوطني اختطفه للعمل به في مواقع مختلفة انتهت به مديراً عاماً للحرس.. قبل أن يباشر عمله القيادي في التعليم..
ويُعد -رحمه الله- في طبقة مثقفي ومتعلمي المجمعة.. وقد أضاف إلى جانب تأهيله في التعليم الرسمي المتوافر له ولأقرانه في زمانه حضور حلقات التعليم التقليدي التي كان يقوم عليها العالِم البارز الشيخ العنقري قاضي المجمعة في وقته..
وكان يُقدَّم في احتفالات المجمعة لإلقاء كلمات الترحيب نيابة عن أهلها عندما يزورهم ملك (كالملك سعود -رحمه الله- أو الملك خالد -رحمه الله-) أو تكون مناسبة عامة ذات أهمية خاصة..
عرفته وصحبته -رحمه الله- عبر ثلاثة عقود ونيّف.. وما وجدت فيه إلا الحكمة والروية والبصيرة عند مناقشة قضايا الشأن العام ما تعلَّق منها بالوطن أو بالسياسات العربية والدولية..
وإدارته العامة في الحرس الوطني لم تكن إدارة المسؤول العابر الذي همّه أن يقول لنفسه كيف أستفيد من موقعي قبل أن يدركني الوقت لتركه.. بل كيف يستفيد العمل والناس مني قدر الجهد الممكن..
وكان غالباً ما يُستفز ممن لا يعرفه بسؤال مفاده.. وكيف تركت العمل ولم تحصل على شيء لنفسك؟.. وكان جوابه دائماً بل حصلت على رضاء الله (إن شاء الله) وعلى تقدير ومحبة الناس..
وأيْم الحق لقد تقاعد الأستاذ محمد الركبان بيد نظيفة وبضمير نقي..
إن من عايش معاناته مع المرض في أشهره الأخيرة لا بد وأن يكون قد رأى وأحس بصدق ودفء المشاعر من مئات الناس الذين يعرفهم ذووه وممن لا يعرفونهم عبر زياراتهم الذاتية أو اتصالاتهم الهاتفية..
وعندي حسْب المرء أن يرحل عن هذه الحياة ثم يُزف إلى آخرته وسط فيض من الثناء والرضاء من القريب والبعيد على حد سواء..
مرت جنازة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس مع صحابته - رضوان الله عليهم- فأثنوا عليها خيراً.. فقال عليه الصلاة والسلام (وجبت).. ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شراً فقال عليه الصلاة والسلام (وجبت).. فقالوا: وما وجبت يا رسول الله؟ فقال: أثنيتم على الأولى بالخير فقال الله وجبت، وأثنيتم على الأخرى بغير ذلك فقال الله وجبت.. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.. وعليه فلعل الله أن يقبل الأستاذ الركبان في ركاب الخيرين المشهود لهم بالخيرية وحسن السيرة بين الناس.
يقول ذووه.. إنهم لاحظوا رجلاً عليه سمت الصلاح لا يعرفونه يأتي إليه كل صباح حيث يرقد في المستشفى ويقرأ عليه ما يسر الله له ثم ينصرف..
وكنت والأستاذ محمد نعاود الرواح إلى أبها للاصطياف بها.. وقلّ أن نترك يوماً يمر من غير أن نخرج إلى أحد منتجعاتها الطبيعية للاستمتاع بأجواء المطر والضباب ولنشارك الناس تلقائية المتعة بأجواء الصيف الندية في السودة أو متنزه السحاب أو الحبلة أو غيرها.. وذات يوم صلينا الجمعة في مسجد الواديين الكبير الذي يحتضن ساحاته الخارجية وجوارها حشوداً كبيرة من المتسوقين في سوق الجمعة.. وكان يحلو له - رحمه الله- البحث في مثل هذا السوق عن جيد العسل والسمن البري.. وبينا نحن كذلك إذ برجل ينادي بأعلى صوته (أبو عبد الله) وهذه كنيته - رحمه الله- فتلفت إليه وإذا هو يأخذ الأستاذ في عناق لا تنقصه الحرارة قائلاً: أنا فلان، أنا من هذه البلدة.. هل عرفتني؟ فيرد عليه بالإيجاب.. ثم يواصل: أنت تفعل الخير ولا يهمك أين تضعه لكنه يقع من الناس موقع التقدير والامتنان.. لقد أتيتك في مكتبك يوماً وأمَّنت لي عملاً كفاني همّ الدنيا حتى بلغت سن التقاعد وعدت إلى بلدتي هذه كما ترى لكني لم أنس معروفك ولن أنساه ما حييت..
ويقول أحد محبي الأستاذ محمد: ضاقت بي الحال في مكة المكرمة.. وجئت إلى الرياض أتلمس عملاً.. فأكثرت التطواف فيها أبحث عن فرصة حتى وصلت بي معاناتي إلى اليأس.. فلقيت أحد معارفي المكيين فسألني عن الحال فأخبرته بيأسي فقال ولماذا لا تذهب إلى رجل مسؤول في الحرس الوطني اسمه محمد الركبان عُرف عنه الخير وقضاء حاجات الناس.. فقلت أتعرفه حتى تتوسط لي عنده؟ فقال لا ولكن اذهب إليه.. فذهبت إليه وثقتي في القبول تُراوح عند مستوى الصفر.. سلّمت عليه.. وبسطت له حالي.. وأني أحمل شهادة في الهندسة ولم أجد فرصة للعمل.. فأجلسني حتى فرغ مما يشغله من أوراق ثم التفت إليّ وطلب مني ملفاً كنت أشد عليه بأصابعي بعصبية تعكس حالة التأزم واليأس والإحباط.. وبعد أن فحصه كتب عليه بعض سطر ثم دعا أحد العاملين في مكتبه وطلب منه أن يأخذني إلى جهة في المبنى تبيَّن لي عند وصولها أنها للتوظيف حيث عُينت من ساعتها وباشرت العمل في اليوم التالي..
وبعد مدة التقيته فسألني عن الحال وعن حياتي في الرياض فقلت.. ما عليّ إلا رضا الله وإحساسي بفضلكم.. فقال وهل ترغب العمل في جدة؟ فقلت في لهفة: وهل هذا ممكن؟ فكان أن حوَّل عملي إلى هناك بالقرب من أهلي ومحل سكناي.. ويتكرر مثل هذا الموقف منه مئات المرات مع مئات الناس الذين فتح لهم أبواب الأمل في حياة كريمة ومستقبل واعد..
هذا غيض من فيض مما يمكن أن يُقال أو يُكتب عن الأستاذ محمد -رحمه الله-.. ولقد كتبت عنه في وقت مضى في كتابي: (من روادنا التربويين المعاصرين) ضمن عشرات الرواد الذين كان لجهد ريادتهم وصبرهم الذي ما كنا لنشهد من تطور في بلادنا أن يحدث لولا معاناتهم وصبرهم على اقتحام كل متطلبات الريادة الحقة..
ولعلي أعود لأكتب عنه مفصلاً في إضاءات تلمس كل جوانب حياته الأمثولة والقدوة في زمن كثر فيه المتعلمون وقلَّ فيه العلماء أمثال الأستاذ محمد.
هاتفه قبل وفاته بمدة وجيزة صديقه ورفيق عمره الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري وقال بأنه يريد أن يراه.. فلما التقيا أجهشا بالبكاء كل بطريقته.. وكأنهما يغسلان بدموعهما ران ما تراكم من ذكريات سنين طويلة من الذكريات التي لم يعد لمزيد منها إلا القليل..
رحمك الله يا أبا عبد الله.. وجعل في خلفك الخير.. وأملنا وعزاؤنا أن نجد في مثلك من يواصل المسيرة بمثل ما فعلت بكل النقاء.. وبكل النزاهة.. وبكل المروءة والإيمان..
- الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز سابقاً - المدير العام للتعليم بالمنطقة الغربية سابقاً