ليت ذلك الأعرابي يرى بعينيه الحرتين النافذتين، ويسمع بأذنيه المرهفتين، ما يحدث لأحفاد أمته العربية في هذه المرحلة من الذلّ والهوان؛ فلربما غيّر نمط إجابته عن السؤال الذي وجهوه إليه في بغداد المجد والتاريخ ذات يوم، صحيح أنه تغيير إلى الأسوأ، ولكنه إجابة عن سؤال لغوي لم يجب عنه في حينه؛ فكان بإمكانه في حالة العرب اليوم أن يجيب فيفيد السائلين. ماذا قال ذلك الأعرابي ذو الأنفة والشموخ؟ |
كان يتجول في بغداد، لابساً بردته البالية ينظر إلى شموخ هذه العاصمة الإسلامية العريقة نظرة المعجب بما فيها من مظاهر العزّة والقوّة والمنعة والعلم الذي ينتشر في كل ناحية من نواحيها، وإنه لفي حالة من الشعور بالعزة والأصالة والعراقة حينما التقى ببعض أهل اللغة الذين كانوا يتصيّدون الأعراب القادمين إلى بغداد ليستخرجوا منهم كنوز لغة القرآن الخالدة، وكانوا يعرفون هؤلاء الأعراب بمظاهرهم البدوية الخالصة وبملامح وجوههم العربية الأصيلة، وبعلامات الشموخ التي لا تخطئها عين الناظر. |
حينما التقى أولئك اللغويون بذلك الأعرابي وهو في هذه الحالة من النشوة والشعور بعراقة التاريخ، وشموخ الزمان والمكان، استوقفوه مسلّمين عليه؛ فوقف لهم وردَّ عليهم السلام بلغته العربية الساحرة التي كانت تبهر مسامع علماء اللغة في الحواضر الإسلامية في الشام والعراق، وهنا وجّهوا إليه السؤال التالي: يا أخا العرب، كيف تقول في الاستخذاء؟ أتقول استخذأتُ بالهمز، أم استخذيت بالياء؟ فقال الأعرابي بلهجة قوية حسمت الموقف: لا أقول هذا ولا ذاك، فالتفت القوم إلى بعضهم متعجبين وسألوه بلسان واحد: لماذا لا تقول بهما أو بأحدهما؟ فقال وهو يفخّم من كلماته: (لأنّ العرب لا تستخذي). |
هنا طأطأ عشاق اللغة برؤوسهم خجلاً من هذا الشموخ، وإعجاباً شديداً بهذه الكلمة التي انطلقت من فم الأعرابي كالسهم المضيء. |
(العرب لا تستخذي)، نعم لقد كان العربي الأصيل يفضل الموت على حياة ذليلة يكون فيها تابعاً ذليلاً، مسلوب الإرادة، وحينما جاء الإسلام بعظمته وشموله وكماله، وهيمنته على الدين كلِّه، زاد من هذا الشموخ ووجّهه الوجهة الصحيحة التي لا ترى العزّة ولا المكانة إلا في الالتزام بما شرع الله، والاعتزاز بما أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشرع الحكيم. |
أيها الأعرابيّ الملتفُّ في بردته القديمة البالية.. ليتك ترى أمتك اليوم، وترى كيف أصبح الاستخذاء علامة بارزة لها، ومع أن هذه الحال لا يتمنى أن يراها غيور على أمته، ولسنا نتحفك بهذا الأمر حينما نتمنّى أن تكون معنا، إلا أن وجود مثلك ربما أعاد إلى ذاكرة العربي المعاصر المهاجر إلى المجهول ما يشعره بفظاعة الاستخذاء. (العرب في عصرنا تستخذي) هذه هي الحقيقة المرّة أيها الأعرابي. |
|
ولا يُقيم على ذُلّ يُراد به |
إلا الأذلاّن عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ |
|