Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/07/2008 G Issue 13086
الأحد 24 رجب 1429   العدد  13086

رثى صديقه بالأمس.. ونحن اليوم نرثيه
محمد بن أحمد الرشيد

 

هذا الرجل الذي ودعناه.. لا أقول فارقناه.. لأنه باقٍ في حياتنا، شاغل عقولنا.. ساكن في أفئدتنا.. لن ننساه.. لا بحكم القرابة، بل بحكم ما يتميز به من كرم الأصل، ونبل الخلق.. وجميل المشاعر التي غمر الناس بها حياً.. وسوف تبقى لديهم من بعده ميتاً.

لكل إنسان مساحة في حياة الآخرين، ومساحة فقيدنا في نفسي وكثير من أمثالي شملت كل أبعاد وجوانب روحي وذرات كياني.. وكأنه لم يبق مكاناً ولا شيئاً من طيب المشاعر لأحد غيره.

***

إنه معلمي الأول، على يديه بدأتُ حروف الكتابة، كما بدأتُ أُنشد للحياة، ,ينشد الصغار مثلي.. أستاذي محمد العثمان الركبان - رحمه الله - علَّمنا منذ الصغر أن نعد العدة للشباب والكِبر.. ولا أنسى أنغام الأناشيد التربوية التي انتقاها، ولحنها بنفسه..

كنت في السادسة من عمري حيث وقفت في طابور المدرسة الصباحي يوماً وقف أمامنا ينشد ونحن نردد بزهو وإعجاب وراءه:

يا شباباً درسوا فاجتهدوا

لينالوا غاية المجتهدِ

أنتمُ جيل جديدٌ خلقوا

لعصور مقبلات جُددِ

إلى آخر هذا النشيد الذي ضاع مني مع زحام الأفكار، لكن بقيت صورته ماثلة أمامي حتى الآن، وقد سبق الدنيا بتطلعه وإنشاده لعصور مقبلات!!

ها نحن نعيشها!! وما كان أحد في ذلك الزمان يتوقع أن يكون مثل هذا الزمان الذي نحن فيه الآن - وقد عرفت المعنى الكبير، والهدف البعيد لهذه الأنشودة، وتلك التربية بعد أن رأيت تغير الزمن، وتطور العصر.

***

هذا عن فقيدنا بوصفه معلماً في أوائل حياته العملية.. أما خصاله السامية، وسماته العالية فإن مقالاً واحداً لا يفي بحق واحدة منها، ولا سيما ونحن نمر في ظرف عصيب لفجيعتنا بفقده هذه الأيام المحسوبة في حياتنا.

***

لقد كان وحيد أبيه، وكان نعم الابن لخير أب، لقد ضحى بفرص كثيرة أتيحت له وهي ذات مردود عملي ومالي كبير، ومركز وظيفي مرموق، لكنه آثر البقاء في بلدته المجمعة وعدم مغادرتها، ليقوم على خدمة والديه وبجوارهما لا يفارقهما.

***

جيله جيل العصاميين، وعهده عهد الفضلاء القانعين، لم يرحل مع زملائه إلى دار التوحيد بالطائف إذ كانت تلك الدار في ذلك الزمن هي المؤسسة التعليمية المتقدمة والوحيدة المتاحة لمن أنهوا المرحلة التعليمية التأسيسية، مع رغبة جامحة عنده للمزيد من العلم -لكنه آثر البقاء لينعم والداه به، وينعم هو بهما - رحمهم الله جميعاً - وقد تمكن بفضل الله في وقت لاحق من مواصلة الدراسة منتسباً وهو على رأس العمل التربوي.

لا أعرف في صباي أحداً في بلدتنا المجمعة يفوقه أناقة وحسن هندام، فقد كان جميل المظهر، كما هو دائماً جميل المخبر. وكما هو جميل المظهر، وجميل المخبر هو أيضاً جميل القول، جميل اللفظ - رحمه الله - كان له من سلاسة الأسلوب في الحديث والكتابة ما يسلب الألباب، ويسيطر على الأفكار.. وينال بصدق كل تقدير وإعجاب.. هذا بجانب ما حظي به من خط جميل، كأنه النقش المرسوم.. وكأنه يتمثل بما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قال: (عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق).

***

لقد كان يكتب بين الفينة والأخرى في وسائل الإعلام المختلفة، وحين يكتب لا يملك القارئ المتذوق إلا أن يعجب بطريقة طرحه وأسلوبه، وعمق فكره.. لقد شارك في أعمال فكرية كثيرة، كان من أبرزها إسهامه الكبير في موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مئة عام، في ستة مجلدات.

***

لقد ظل فقيدنا رفيقاً لأستاذنا عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري - رحمهما الله - مع ما بينهما من فارق السن - تدارسا معاً كتب الأدب شعراً، ونثراً، ونهلا من الثقافة العربية، ومن تتبع الأخبار السياسية ما لم ينهله أحد مثلهما في بلدتنا في ذلك الزمن.

لقد شاهدت عمق المودة بينهما، ووثيق الصلة التي تجمعهما حين رأيتهما قبل وفاة شيخنا التويجري بزمن قليل.. كيف التقيا، وتعانقا، وبكى كل منهما على كتف الآخر، بكاء الصدق، والحب، والإخلاص.

***

انتقل فقيدنا الأستاذ محمد الركبان - رحمه الله - من المجمعة إلى الرياض بعد أن أمن مسكناً له يفي بمتطلبات والده الذي صحبه إلى الرياض.. ومن أولها أن يكون المسكن مجاورا لمسجد، حتى يكون في الجماعة دائماً ومعهم في كل الصلوات المفروضة.

***

تدرج فقدينا - رحمه الله - في الوظائف الحكومية حتى وصل إلى درجة وكيل وزارة، مديراً عاماً للشؤون المالية والإدارية بالحرس الوطني.. وكان نعم المدير العام.. عامل الناس بلطف وقضى حوائج المراجعين بيسر.

خرج من الدنيا - عفيفاً.. كريماً.. قليل المال.. لكنه خرج من أثرى الأغنياء بحب الناس له.. وصدق تقديرهم لفضله:

الناس صنفان: موتى في حياتهم

وآخرون ببطن الأرض أحياء

***

مات فقدينا جسداً ولم يمت روحاً، عانى من المرض طويلاً فصبر واحتسب ذلك عند الله، وكنت أيام مرضه زحاماً من أحبابه، ودون انقطاع من أصدقائه الطيبين، فالإخلاص عند الشدائد، وفي المرض دليل على صدقه، وحب من يخلص الناس له.

أقدم العزاء لنفسي.. ولأختي الفاضلة أم عبدالله.. وإلى أبنائه وبناته.. الذين رباهم فأحسن تربيتهم، وعلمهم فأجاد تعليمهم.. ونشأهم على أعظم القيم وأنبل الخلال.. مما مكنهم جميعا من أن ينالوا ما هم فيه الآن من الوظائف المرموقة، والحياة الطيبة.

***

رثى بالأمس صديقه، ونحن اليوم نرثيه، حقاً.. إنها الدنيا.. لقد كتب فقيدنا - رحمه الله - عزاءً صادقاً في فقيدنا وأستاذنا عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري الذي كان خير صديق له.. لكن ما هي إلا شهور قليلة تمر، ويلحق بصديقه الذي رثاه.. ونحن اليوم من بعده نرثيه.

***

وإني لأذرف الدمع عليه غزيراً، وأنا في هذه البلاد النائية، لأنه ليس نائياً عن فكري، ولا غائباً عن وجداني.. ولكم تمنيت أن أشارك في وداعه، لكنه القدر حرمني من الفوز بالأجر، ووداع أحد أعزاء الأصدقاء والأقرباء.

***

دعاء صادق إلى الله أن يجعل لفقيدنا بما أعطى الناس من خير.. وعاملهم بالنبل، وما قدم للوطن من إخلاص، وما تحلى به من نزاهة.. أن يجعله كل ذلك مع الصديقين والشهداء، من رضي الله عنهم ورضوا عنه.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد