Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/07/2008 G Issue 13086
الأحد 24 رجب 1429   العدد  13086

الرادع النووي بين مطالب خيار الاستخدام ومصاعب قرار الانتقام
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

منذ أن ألقت القلعة الأمريكية الطائرة ب- 29 قنبلتها الذرية على بعض المدن اليابانية في الحرب الكونية الثانية أخذ الصراع المسلح بعداً جديداً ومنعطفاً خطيراً، الأمر الذي فرض على الزعماء السياسيين والقادة العسكريين مطالب عظيمة وحملهم أعباء جسيمة، تضاعفت شدتها وزادت حدتها في تناسب طردي مع ،،،،

تطور هذا السلاح، وتعدد وسائط نقله، وتنوع ظروف استخدامه، وما واكب ذلك من طفرة هائلة في مجال الاتصالات ونقلة نوعية في تقانة المعلومات. وبمجرد ظهور السلاح النووي واستخدامه بصورة فعلية في عام 1945م وما نتج عن هذا الاستخدام من مأساة بشرية، فإن هذا التاريخ لم يشكل بداية الرعب النووي الذي سيطر على العالم فحسب، بل يعتبر تاريخاً لاختمار فكرة الحصول على السلاح النووي والسعي إلى امتلاكه في أذهان زعماء بعض الدول التي بادرت في هذا الاتجاه متسلحة بقوة إرادتها وعزيمتها وتوفر إمكاناتها، وفي الوقت نفسه مستغلة الفترة الزمنية التي أعقبت ظهور هذا السلاح وامتد إليها ظل استخدامه، وما تخلل هذه الفترة من تغيرات دولية وظروف عالمية ساعدت في مجملها هذه الدول على إخفاء النوايا العسكرية بشأن استخدام الطاقة النووية وتغليفها بغلاف الاستخدام السلمي، مستفيدة من إعلان الرئيس الأمريكي أيزنهاور (الذرة من أجل السلام).

وقد فرض العصر النووي على أولئك الذين انضموا إلى ناديه أن يدخلوا حلبة الصراع العلمي والسباق البحثي نحو زيادة فاعلية هذا السلاح الردعي ومضاعفة قوته التدميرية، كما انهمك العسكريون من جميع دول العالم لدراسة النتائج القائمة وقتها، واستشراف الآثار المنتظرة لأي اختراعات جديدة على هذا الصعيد، بغية تحديد كنهها وتقدير انعكاساتها على الأمن الوطني، وبالتالي المبادرة بوضع خطط الدفاع اللازمة للوقاية من مخاطر هذا السلاح والحد من آثاره. وفي ظل الاحتكار النووي من قبل أحد الأطراف المتصارعة، فإن الطرف الذي يحتكر هذا السلاح يعيش في فسحة من الأمن والاستقرار النفسي والمعنوي على حساب ضعف الطرف الآخر وما يعانيه من مرارة الغبن والانكسار النفسي تحت وطأة الشعور بالدونية واختلال ميزان التسلح أمام خصمه الذي يتربص به الدوائر، مكبلاً إياه بالضغوط السياسية والاقتصادية، ومنتظراً منه الذريعة والسبب لينقض عليه تقليدياً مع الإشارة بلسان الحال إلى العصا الغليظة نووياً. وهذا الطرف المغبون لن يهدأ له بال حتى يبلغ المنال بكسر الاحتكار النووي واللحاق بخصمه عسكرياً، محققاً التوازن في ميزان الردع، وتمثل دولة الباكستان وجارتها الهند المثال الواضح على هذه الإستراتيجية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى إبطال مفعول القدرة النووية لدى الخصم وليس تدميرها مادياً. وقد قال الشاعر العربي:

ومن ضيع السيف اتكالاً على العصا

شكى وقع حد السيف ممن ينازله

وإذا ما أصبح هناك شكل من أشكال التعادل الإستراتيجي نووياً بين القوى المتضادة، فإن فكرة الردع هي المفهوم الأساسي في هذا التعادل باعتبار أن الإستراتيجية الفاعلة ضد الهجوم النووي هي التهديد بالانتقام، ويطلق على هذه الإستراتيجية في المفهوم النووي اسم (إستراتيجية الردع) التي تمثل الموضوع الذي يدور حوله كل ما هو خاص بصنع السياسة النووية، وكذلك الدبلوماسية المحركة لها، والتي تشكل عاملاً حاسماً فيها، طالما توفرت المصداقية وقابلية الاستخدام لكلا الجانبين، بحيث يتأكد لكل منهما أن قدرة الطرف الآخر على الرد بتوجيه ضربة ثانية هي قدرة قابلة للتصديق. والواقع أن القدرة العسكرية في معناها التقليدي ترتبط بالقوة المادية للقوات المسلحة من حيث العدد وقوة النيران والتأمين الإداري والعناصر المكملة لذلك، وتزيد هذه القدرة عن طريق جودة التدريب والمهارة في التنفيذ والتطبيق الصحيح لمبادئ الحرب والقيم الإنسانية والنوعية الأخرى، وهذه القدرة التقليدية تتناسب تناسباً طردياً مع القوة المادية، أما في الصراع النووي، فإن مجرد امتلاك القوة النووية قد يمنح الأمة القدرة المطلوبة في مجال الردع وتوازن القوى، لكن قدرتها الإستراتيجية الحقيقية يتم قياسها بمزجها بعامل المصداقية.

وقابلية التصديق بالنسبة للقوة النووية يمكن تعريفها بأنها درجة التأكد واليقين من قبل الخصم بأن هذه القوة سوف تستخدم بالفعل إذا ما دعت الضرورة، ويتحكم في ذلك بالإضافة إلى القوة النووية العديد من الخصائص الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعلمية والمعلوماتية التي تشكل مجتمعة عامل مصداقية.

وبالطبع فإن التأكد من أن العدو سوف يظل لديه قوة كافية حتى بعد أن يمتص الضربة الأولى، بحيث تمكنه هذه القوة من الانتقام بشن هجوم مضاد نووي هو الذي يجعل فكرة الردع تكتسب قيمتها وفاعليتها، وهذا يعني أن كلا الجانبين يمتلك قدرة على الضربة الثانية قابلة للتصديق، بشكل يمارس من خلاله كل منهما أسلوب الاستقرار النووي بفضل العلاقة المتبادلة بين القوى المتصارعة، إذ ليس ثمة ما يغري أياً منهما باللجوء إلى القوة من أجل كسب سياسي. ومن هذا المنطلق فإن الردع بدأ من كونه إستراتيجية سياسة أكثر منه إستراتيجية عسكرية، إذ إنه في جوهره فكرة لمنع الحرب وليس إجراءً لكسبها، ثم بعد ذلك تطور مفهوم الردع متحولاً إلى نوع من الاستقرار نتيجة لإدراك طرفي الصراع بأنه إذا ما قام أي منهما بالبدء في توجيه الضربة الأولى فإن القوة النووية لدى الطرف الآخر ستظل قادرة على البقاء بما يكفي للانتقام، ويعود ذلك إلى أن كل طرف من الطرفين يعترف بمصداقية قدرة الطرف المقابل على توجيه الضربة الثانية، الأمر الذي لا يوجد معه أمن مطلق بل يترتب عليه توازن سياسي نسبي دون أن يصل أحياناً إلى مستوى التوازن العسكري.

وتأسيساً على ذلك فإن تطور مفهوم الردع المتبادل يدل على أن الاستقرار النووي يمارس أيضاً بالفعل درجة من التأثير الرادع على مستويات الحرب الدنيا، حتى وإن لم يستطع أن يمنعها، فهو يستطيع على سبيل المثال أن يتحكم في كثافة ومستوى الحروب المحدودة، أما تلك الصراعات المنخفضة الشدة المتمثلة في حرب العصابات السرية والاغتيالات والأعمال الإرهابية وما في حكمها، فإنه يصعب ردعها مع أن تهديد الردع قد يحصر حريتها في العلم ويمنع انفلاتها.

وزيادة في التوضيح، فإن المضامين النووية أوجدت فرقاً جوهرياً بين الحرب التكتيكية والصراع المنخفض الشدة من جهة، وبين الحرب التكتيكية والحرب الإستراتيجية من جهة ثانية، وهذا الفرق هو أن الحرب في شكلها التكتيكي يمكن ردعها في حين يصعب ردع بعض حالات الصراع المنخفض الشدة، كما أن القوة التكتيكية ليست رادعاً مطلقاً لأنها لا تمتلك قدرة مضمونة على البقاء بوصفها تمثل رادعاً جزئياً، أما بالنسبة للقوة الإستراتيجية فإنها في المقام الأول تمارس أسلوب الردع لكونها مصممة لمنع الحرب وليس لخوضها.

وهذه الإستراتيجية تناقض من عدة وجوه أي شكل تقليدي، حيث إنه في النوع التقليدي يبدأ الاهتمام الإستراتيجي عند أدنى مستويات السلام ويصعد تدريجياً إلى مستويات الحرب، باعتبار أن السلام يوجد عند السفح والحرب تستقر حول القمة، أما في مفهوم الإستراتيجية الشامل فالعكس هو الصحيح، كما يظهر من شدة الكبح وفاعلية الردع التي تمنع من اللجوء إلى القوة القصوى لتحقيق هدف معين، بخلاف الإستراتيجية التقليدية التي تبحث عن أقصى ميزة عسكرية ممكنة بهدف كسب الحرب، وقد قال جورج مارشال: إن أعظم الوسائل لكسب الحرب هو أن تمنع وقوعها.

ومن أغرب أنواع الردع النووي ما لجأت إليه الدولة الصهيونية، حيث إنها غلفت نشاطها النووي بالسرية حيناً وبالغموض حيناً آخر وبالتلميح أحياناً، جامعة بين الإقرار المبهم والإنكار الموهم بالصيغة التي تركت معها الباب موارباً للردع بالظن مع الإمعان في جعل العرب في حيرة من أمرهم، ومن ثم النيل منهم نفسياً ومعنوياً. وبهذا الردع الظني الذي سوف يتحول إلى حقيقة إذا جد الجد واضطرتها المواقف إلى تفعيله باستخدام السلاح النووي، استطاعت إسرائيل تعزيز موقفها وتوطيد أمنها من جهة، وخداع العرب وتضليلهم من جهة ثانية، وإدخال الردع النفسي والمعنوي إلى الشعوب العربية من جهة ثالثة، وعدم إعطاء الذريعة للعرب وحجب الحجة عنهم ليفتر حماسهم ويقل نشاطهم في مجال الطاقة النووية من جهة رابعة والالتفاف على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي لم توقع عليها أصلاً، ودفع العرب إلى توقيعها من جهة خامسة.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن المسؤول عن اتخاذ القرار بشأن الرادع النووي يخضع لمركزية عليا متناهية ويمر بضغوط عقلية وعضلية، مما يجعله أمام مسؤوليات عظام ومهام جسام تتنازعه من جوانب مختلفة، بحيث يجد نفسه بين مطالب خيار الاستخدام ومصاعب قرار الانتقام، فالاستعداد للحرب يتم في وقت السلم، والتكاليف مرهقة، والمخاطر محدقة، واستحقاقات القيادة دائماً في المترك ومقومات الأهلية تحت المحك، ومهما كانت الأهداف متباعدة والمواقف متضادة، ومنغصاتها متكاثرة والقواسم المشتركة بينهما متنافرة فإن الحزم وقوة العزم والقدرة على وزن الأمور والإقدام والإحجام والكبح والإحساس بالمسؤولية تعتبر فضائل جامعة مانعة، وكلها صفات وممارسات ملازمة للقدرة النووية تزيد من قابلية التصديق تارة وتحد منها تارة أخرى.

والأسلحة النووية واعتباراتها الفضائية، يتعين أن تكون ظهيراً للأسلحة التقليدية ومكملة لها، مع توظيف كل منها طبقاً لمجال عمله وبالشكل الذي يحقق أغراض استخدامه، خصوصاً أن احتراف المهنة ينطلق من قوات القتال التقليدية بأبعادها البرية والجوية والبحرية وقوات الدفاع الجوي والاقتحام الجوي الرأسي، فضلاً عما يدخل في فلك هذه الأسلحة من منظومات وتنظيمات يدعمها البعد الفضائي ويزيد من فاعليتها وتأثيرها.

وفي هذا الزمن المثقل بالصراعات والذي تكثر فيه الفتن ويعج بالقلاقل وتطغى فيه قوة القطب الواحد على ما عداها، مع وجود شبه إجماع دولي على حظر انتشار الأسلحة النووية، فإن الدولة التي تمتلك هذا السلاح يتوفر لها نسبة كبيرة من أمن التهديد في حين أن الدولة التي تحاول الحصول عليه تتعرض إلى تهديد الأمن وهذا هو موضوع المقالة التالية.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد