انتهى العام الدراسي.. هكذا وكأنه بدأ فجأة. حمل كل منا أمتعته ورحل.. وتمددت بين أيدينا أشهر الصيف الأربعة تبعث فينا كيفما تشاء...
كيف للكبار والصغار أن يقضوا معا أشهرا أربعة يوما بيوم وليلة بليلة دون خلق آلاف الصراعات واستدعاء مشاريع القلق الغائبة وخلق حالات الفوضى الدائمة في مسار اليوم والنوم واللقاءات الاجتماعية.
وكيف نتحول جميعا (أقصد نحن سقطاء النظام التعليمي من موظفين وطلبة على وجه التحديد باعتبارنا نتمتع بأطول الإجازات) إلى حالة من البيات الصيفي النهاري الذي يبدأ بعد تباشير الفجر ويغفو حتى الثالثة لتبدأ رحلة نهار ليلي!!
هل هناك نظام تعليمي في العالم كله يتيح لموظف أن يجلس في بيته لأشهر ثلاثة مدفوع الراتب دون عمل سوى معلمينا المبجلين وأساتذة الجامعة المتميزين من أمثالي؟!!
وهل هناك نظام تعليمي في العالم يتيح كل هذا الغياب عن المعرفة والتعلم ولأشهر أربعة بدءا من أصغر طالب في هذا النظام صعودا لطلاب التعليم الجامعي دون أن ينسى هؤلاء الطلاب وخلال شهور العطلة والفراغ ما درسوه خلال السنة؟؟!
أظن أننا بحاجة لمراجعة الكثير من قناعاتنا حول النظام التعليمي بدءاً بمفهوم الإجازة الصيفية الذي بدأه العالم كمحصلة لبقايا العالم الزراعي حين كان الأهالي بحاجة إلى أطفالهم في الحقول للمساعدة في الحصاد وهو ما حدد وقت العطلات لنكون بهذا الطول وفي أشهر الصيف بالذات (بالنسبة لأوروبا وأمريكا ومعظم دول العالم بخلاف اليابان وأستراليا).
العالم لا يحتاج إلى كل هذه الشهور الطويلة من الإجازة التي يتآكل خلالها وبالتدريج ينسى الطلبة (لطولها) ما تعلموه، التعلم اليوم في القرن الواحد والعشرين هو عملية يجب ألا تتوقف بل هي فعلا جارية 365 يوما وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة في هذا العصر ليس من الضروري أن يكون التعليم مربوطاً بمكان محدد يمكن للكمبيوترات الشخصية وأدوات الاتصال المتقدمة كسر حواجز الوقت والمكان والحضور المباشر للمعلم.
إن المقدار الهائل من المعرفة المتاحة عبر المصادر التكنولوجية المختلفة قد غير طبيعة المواد التي يجب التركيز عليها طوال العام.. فإذا كان العام الدراسي شغوفا وفي داخل المدارس (ويجب أن يكون ذلك) بتدريس المواضيع التقليدية المتعارف عليها من رياضيات وعلوم ولغات إضافة إلى مهارات القراءة والكتابة فأن هناك مواضيع ستكون حاسمة لمستقبل البشرية مثل الوعي البيئي والوعي القيادي والأخلاقيات وإرساء مفاهيم الديمقراطية والمحاسبة والشفافية والمسؤولية الفردية والاجتماعية ومفاهيم التطوع الاجتماعية والتربية الوطنية والصحة والتأكيد على مفاهيم حقوق الإنسان وكلها مواضيع للأسف لا تغطيها المناهج التقليدية المقدمة في المدرسة التقليدية خلال العام الدراسي رغم أهميتها القصوى لبقاء وازدهار البشرية ومن هنا تأتي أهمية استغلال هذا الفراغ الصيفي المريع للحاق بركب الأنظمة المتقدمة في تدريس ما نحتاجه لمستقبلنا لا ما يتوقع منا أسلافنا دراسته!!
- لا نحتاج في فصل الصيف أن نربط يومنا وتعلمنا بالجرس المدرسي أو باليوم المدرسي أو بحضور المعلم الذي يتمتع هو الآخر بإجازته وليتمتع طلابنا بأنهم خارج أساور هذه السجون المدرسية لكن فرص التعلم وللمواضيع التي لم تتمكن وزارة التربية والتعليم لأسباب هي تعرفها أكثر من غيرها من فرض تدريسها على المدارس يمكن فرض متعة تعلمها في هذه الشهور الصيفية الطويلة.
- ولأن كل ما يحيط بنا ينبئ عن عالم من الدهشة التكنولوجية المثيرة لذا يمكن استغلال هذا العبث الصبياني الذي يملأ شوارعنا بزعيق سياراته فيما يخلق معنى ليوم هؤلاء المراهقين الضائعين في بحيرة الفراغ عن طريق وضع برامج تعليمية وتثقيفية محددة تكون جزءا من متطلبات التخرج لأي مرحلة وينهيها الطلبة في أي وقت عبر النت متى ما شاءوا أو بأي وسيلة ممكنة في المنطقة التي يقطنونها (أقراص ممغنطة، برامج تلفزيونية عبر قنوات تعليمية إلخ...).
- هل هناك أشطر من صغارنا ومراهقينا في الجلوس على النت والدخول إلى كل موقع واختراق كل محجوب بل واختراع ما تشاء من فيروسات.. فما الذي يمنع من استغلال هذه الطاقات المهملة في دفع الوعي الشخصي والعام وفرض بعض البرامج التنويرية وجعل إتمامها جزءا من متطلبات التخرج.
- شبابنا أيها السادة يلوكهم الفراغ وفقدان المعنى والهدف.. لذا فهم لقمة سائغة للحبوب المخدرة وللقيادة اللامبالية وللعنف المدني ولكل التجاوزات التي تحفل بها المدن الكبرى للأسف في كل أنحاء العالم أما البنات فليس أمامهن سوى التسطيح العقلي ومزيد من المقارنات مع (ما تلبس فلانة ونوع أدوات الزينة المستخدمة، أو هي أحدث قصص الأولاد من الفيس بوك أو من أرقامهم التي يتم التقاطها في الشوارع الخلفية)!!!
- هناك عالم من الارتباك والفوضى ينخر في عظام نظامنا المعيشي داخل المدن.. كانوا في القرية يعرفون ماذا يجب عليهم أن يفعلوا إذ كانت الواجبات والمسؤوليات محددة.. ومفاهيم السلطة وتوزيعها لا جدال فيه.
- اليوم تداخلت تسهيلات الحياة المدنية لتجرد الأفراد من مسؤولياتهم الأساسية تجاه أنفسهم وعوائلهم (السائق، الشغالة، الروضات التي تحتضن الصغار سحابة النهار، البلاي ستيشن والكمبيوترات الشخصية إلخ) وكل ما تحفل به حياتنا من تسهيلات وتعقيدات أفقدت الإنسان داخل الأسرة دوره وجعلت وجوده اليومي بلا معنى أو هدف أو جدوى مما جعله فريسة سهلة للالتقاط بواسطة خفافيش الظلام التي تتربص بنا وبأبنائنا في كل زاوية من زوايا هذه المدن المستوحشة.
- الساعة الآن تبلغ الثانية صباحا وعبر نافذتي يصلني صوت التفحيط الذي يمارسه بعض هؤلاء الصغار الجهلة بالقرب من شارعنا كاستعراض مثير لقدرات وهمية يطمحون لنيلها في مواجهة ناطحات سحاب الفراغ الذاتي والاجتماعي الذي يعشعش في دواخلهم وفي الوقت ذاته أثق أن هناك وفي بعض الشوارع الخلفية في جنوب وشرق وشمال الريض يتسلل هؤلاء الخفافيش ممن يدفعون بهذه الحبوب المخدرة إلى عقول صغارنا ليدمروها ومثل ذلك يحدث في كل مدينة مهما رغبنا ألا نسمع ذلك.
- هلا نرحم هؤلاء الضائعين ونمنحهم ونمنح هذا الوطن الجميل فرصة البحث عن الذات بما يخدمهم ويحفظ بقاءهم وبقاء عالمنا الكوني الذي لن يبقى دون وعينا الجماعي بأهمية بقائه! هل يمكن المطالبة بتقصير هذه الإجازة الطويلة أو على الأقل التفكير في كيفية استغلالها في دفع مفاهيم التعلم الذاتي لدى الأفراد والجماعات؟؟!