إن الأديب والشاعر والفيلسوف والكاتب قد تكون له عدة شخصيات؛ فهو في حياته العامة له شخصيته، وفي حياته العملية له شخصيته الثانية، وعندما يريد أن يدون ما يحيك في عقله من أفكار تحول إلى إنسان آخر، وكانت له شخصيته الثالثة التي تتناقض تناقضاً تاماً
مع الشخصيات الأخرى. وتعدد الشخصيات هذا يكون نتيجة للظروف المحيطة بكل حالة؛ ففي الحالة الأولى تحتم عليه الظروف أن يتعامل مع غيره بمثل ما يفعل غيره، وفي الحالة الثانية عليه أن يقوم بما التزم به أو أُلزم به، أما في الحالة الثالثة فهو حر في ذاته، وهنا فقد يُعمل فكره وعقله فيما يدور فيهما من أفكار أو أطروحات فكرية معينة، قد يكون لها فائدة للإنسان بصورة عامة.
والأمثلة على هذه الحالات في التاريخ البشري كثيرة. ونحن هنا سنتطرق إلى فيلسوف روماني كانت له شخصيات متعددة قام في بعضها بأفعال فيها من القسوة ما يشمئز منها الضمير، وعلى العكس من ذلك له أفكار فلسفية لا تزال لها قيمها حتى اليوم. وهذا الفيلسوف هو لوقيوس سنكا الذي ولد في حوالي سنة 5 ق.م، وتوفي سنة 65 بعد الميلاد. وكان فيلسوفاً رومانياً، وسياسياً. ولد في قرطبة بإسبانيا، وتعلم المحاماة في روما. وأكب على دراسة الفلسفة والخطابة، وصار عضواً في مجلس الشيوخ. وفي سنة 41 بعد الميلاد فقد رعاية الامبراطور كلوديوس بعد أن تورط في قضية خاصة بالدولة، وحكم عليه بالنفي إلى قورسقه؛ فأقام منفياً فيها ثماني سنوات. بعدها عاد إلى روما، ووكلت إليه أجربينا agrippina تربية ابنها نيرون neron فانتفع هذا بحكمة سنكا. ولما صار نيرون امبراطوراً (نيرون هو الذي أحرق روما) عينه قنصلاً في سنة 57 بعد الميلاد.
لكن طبيعة نيرون الشريرة (والذي أخذ الحكمة من سنكا) ما لبثت أن انطلقت من عقالها، فضاق ذرعاً بنصائح وحكمة سنكا، فغضب عليه، واضطر سنكا إلى الانسحاب من الحياة العامة. وحاول نيرون قتله بالسم، فأخفقت المحاولة، لكن سنكا اتهم في مؤامرة بيسو Piso وحكم عليه بالموت مع ترك الحرية له في اختيار طريقة موته؛ فاختار أن يفتح شرايينه فنزف منه الدم حتى مات في سنة 65 بعد الميلاد (يمكن أن طرفة بن العبد سمع بحاله فقلده!؟). وكان لسنكا أفكاره وقد استفاد كثيراً من تجاربه في حياته العاصفة فأعمل فيها فكره واستخرج منها العبر. كان سنكا يرى أن السعادة لا تقوم في الثراء والمظاهر الخارجية؛ لأن هذه أمور زائلة يمنحها الحظ، والحظ متقلب الأهواء، ولكن - كما يقول بدوي - حياته وسلوكه لم يكونا على وفق مذهبه هذا: فقد كان منافقاً متملقاً في حاشية كاليجولا الطاغية القاسي المستحل لأبشع أنواع الاستبداد، وكانت في البداية ذا حظوة هائلة عند نيرون الطاغية المجنون، كما كان محظياً عند كلوديوس الامبراطور الخبيث الفاسد الأخلاق؛ لهذا ينبغي أن نفرق بين سنكا في مؤلفاته، وسنكا في حياته اليومية؛ فلربما كانا على طرفي نقيض.. ويؤكد سنكا أن في وسع الإنسان أن يسلك سبيل الفضيلة إذا توافرت لديه الإرادة لذلك، لكن تجاربه في الحياة ومعرفته بالناس جعلته يدرك أن من الصعب جداً على الإنسان أن يسلك سبيل الفضيلة لكثرة ما هنالك من إغراءات على الرذيلة وعلى الطمع وعلى حب السلطة والمال والنفوذ.. وميز سنكا بين ثلاثة أصناف من الأفاضل:
1- أولئك الذين تخلوا عن بعض الخطايا، لا عن كل الخطايا.
2- أولئك الذين صمموا على تجنب الشهوات الخسيسة بوجه عام، وإن كانوا لا يزالون معرضين (أو مستعدين) للوقوع في بعضها.
3- أولئك الذين تجاوزوا نطاق إمكان السقوط في الرذائل، لكن تعوزهم الثقة بأنفسهم والشعور بحكمتهم؛ فهم يقتربون إذن من الفضيلة والحكمة. ويؤكد سنكا أن الخيرات الخارجية مثل الثروة يمكن أن تفيد في تحقيق الخير. والحكيم هو من يملك المال، لا من يملكه المال. وهو ينصح أن يحاسب المرء نفسه كل يوم، وكان هو يمارس هذه المحاسبة بانتظام. ويرى سنكا أن العزلة لا تفيد؛ لأنك إذا كنت لا تستطيع تغيير نفسك، فبالأحرى لا يستطيع تغيير المكان أن يغيرك، وأينما ذهبت فلا مناص لك من الصراع مع نفسك.. ويقول سنكا: إن الطبيعة (؟) تأمرنا بأن نفيد الناس، سواء كانوا أحراراً أو عبيداً أو مولدين أحراراً، وحيثما وجد كائن إنساني فثم مجال للإحسان. وقال - كما يقول بدوي - هذه الجملة الرائعة: (اعمل على أن تكون محبوباً من الجميع وأنت حي، وأن يأسف عليك الناس وأنت ميت) أو بعبارة أوجز: (كن محبوباً من الجميع حياً، ومأسوفاً عليه ميتاً). ويقول سنكا: وعقاب المذنب ضروري، بشرط ألا يكون في ساعة الغضب أو بدافع من الرغبة في الانتقام.
****
المراجع: موسوعة الفلسفة - د. عبدالرحمن بدوي.
أ.د. عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي
الرياض 11642 ص ب 87416
dr.a.hawawi@hotmail.com