يكون الحلم الوطني في تفاصيل الحركة الاجتماعية، وفي استمرار الأخبار التي تحكي قصص النجاح للأفراد مهما اختلفت تجاربهم العملية، فقد كان الحلم الأمريكي يوماً ما يُضرب به المثل، وشعاراً لمرحلة اقتصادية ذهبية..وكانت حكايات مثل حكاية (جون روكفيلير)...
...المحاسب الصغير في (كليفلاند) الذي تحول وهو في سن الواحدة والثلاثين إلى أقوى أباطرة البترول في العالم، وحكاية (ستيف جوبس) الذي غادر الجامعة بدون أي دبلوم ليؤسس في مرءاب بيت أسرته شركة (آبل) التي حولت الكاليفورني الشاب إلى ملياردير وهو في سنته الثلاثين، أمثلة حية على مصداقية الحلم الوطني، وعلى تعدد فرص النجاح..
لا يمكن أن يكون هذا الحلم حقا لكل مواطن إلا بإصلاح اقتصادي يكفل الفرص المتكافئة أمام جميع المواطنين، ويهيئ لهم المناخ الملائم للنجاح على أرض بلادهم.. وذلك لكي تصبح الطرق على مختلف اتجاهاتها مهيأة أمام الذين يبحثون عن المجد وقصص النجاح، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن لنظام يسمح بهجرة من هب ودب من العمالة الأجنبية إلى وطنه، أن يساهم في تحقيق الحلم الوطني لأبنائه..!
كنت دائما أتعجب للحركة غير الطبيعية لمعظم سيارات الأجرة، ولنظرات الأعداد الغفيرة من العمالة الجالسة على أرصفة بعض شوارع الرياض.. ولكي تعرف حقيقة الحلم الوطني عليك البدء في حوار مع أحد أصحاب المهن الحرة من غير السعوديين.. حصل شيء مثل هذا لي عندما اضطررت إلى أن أستخدم سيارة (ليموزين) للتنقل في مدينة الرياض، وقد تفاجأت من رداءة نظافة السيارة من الداخل، لكن ما لفت نظري أكثر هو حالة التوتر الذي تظهر على وجه سائق وهو يقود السيارة بسرعة غير قانونية..
حدث أن سألت سائق السيارة غير السعودي عن الراتب الذي يتقاضاه نظير عمله في شركة سيارات (الليموزين).. اشتكى السائق كثيراً من الضغط الذي يواجهه من أجل الاستمرار في هذه المهنة، فالمطلوب منه تأدية مبلغ مالي مقطوع يومياً يدفعه للشركة أو الكفيل بغض النظر عن ما يكسب يومياً، ومهما كلفه الحال.. عليه أن يدفع هذا المبلغ أو الأتاوة وإلا خسر عمله كسائق سيارة أجرة.. لهذا السبب هو يعمل طويلاً خلال اليوم ولا يتمتع بإجازة أسبوعية، هذا بالإضافة لتحمله تكاليف أعطال السيارة المكيانيكية.. وهو ما يجعله في حالة قلق دائم، وأن يبحث عن وسائل أخرى من أجل تأمين المبلغ المالي.. وسائل قد تكون غير شرعية.. وغيرأخلاقية.
ينطبق نفس الحال على مختلف المهن الحرة مثل السباكة والكهرباء والحدادين ومقاولي البناء والعمالة المنزلية، وغيرهم من العمال الذي يطوفون شوارع الرياض من أجل تأمين أتاوة الكفيل.. وبالتأكيد تختلف أتاوات السباك والكهربائي عن ضريبة العامل الزراعي، فهؤلاء دخولهم عالية ومضطرون لدفع أتاوة أعلى..
الأتاوة مفردة عربية خالصة من أتى يؤتي إيتاء، الخرج أو الجزية, يؤديه القوم إلى وليهم ويقال: ما أحسن اتاء هذا النخل, أي ما أحسن ثمره, وكذلك الزرع.
والأتاوة تأتي بمعنى الجزية والضريبة، ولو تم دفع هذه الضريبة للدولة لربما عم نفعها على الجميع، ولكن إذا تم تخصيصها كما هو الحال ستكون أقصر طرق الثراء للأفراد، وعلى وجه التحديد لأولئك الذين تجد على كفالتهم آلاف أو عشرات الآلاف من العمال..
تغتال مثل هذه الحكايات تفاصيل الحلم الوطني.. حلم أشبه بالكابوس لجيل تزداد أعداده في طوابير البحث عن العمل.. جيل لا يستطيع بأي حال مجاراة أصحاب المهن الحرة من غير السعوديين، ولا يملك القدرة على منافستهم في سوق تحكمه الأتاوة أو الضريبة التي يدفعها الوافد لأصحاب الولاية على العمل في السوق المحلية.. ستكون أول خطوة في هذا الطريق إلغاء نظام الكفالة، ثم تخصيص ضريبة مقابل العمل لغير السعودي في السوق المحلية، وصرف مواردها لتنظيم سوق العمالة، وحصر أصحاب المهن الحرّة، وإصدار بطاقات عمل مؤقتة لعدد من السنين، وتجديدها حسب حاجة السوق المحلية..
من أجل هذا الوطن الغالي على أبنائه، يجب النظر إلى هذا الأمر بحكمة خالية من المصالح الفردية، لكي تظل دائماً مصلحة بلادنا العليا فوق كل اعتبار، وأن يتم سعودة الحلم الوطني، وأن تكون منتجاته وطنية خالصة من أجل أن يبقى في كل جزء من أراضي بلادنا العزيزة، مساحة كافية لتحقيق آلاف الأحلام للجيل الحالي وللأجيال القادمة بإذن الله.