الرياض - خاص ب(الجزيرة)
أكد الدين الإسلامي في عديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، على تحقيق مصالح الفرد والمجتمع المسلم، وألا يكون تحقيق مصلحة أي من الطرفين على حساب الآخر.. ومنعت الشريعة الإسلامية الظلم والغبن في التعاملات بين أفراد المجتمع المسلم، وخصوصاً في مسائل البيع والشراء، وفي ظل الارتفاع المستمر في أسعار مختلف السلع، وتوجه بعض ضعاف النفوس إلى استغلال هذه الظروف والتلاعب في الأسعار، كان لابد من معرفة الرؤية الشرعية الإسلامية لمن ينهج هذا المنهج، ويحاول احتكار السلع، ورفع أسعارها لتحقيق الكسب الفاحش المنهي عنه، والإضرار بالمسلمين.. بل ومعرفة منهج الإسلام في تسعير السلع والخدمات، ومواجهة ظاهرة الاحتكار.. حول النقاط تحدث اثنان من العاملين في الحقلين الاقتصادي والدعوي.. فماذا قالا؟!..
التسعير والاحتكار
يرى الدكتور زيد بن محمد الرماني - المستشار الاقتصادي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض: إن غلاء الأسعار له أسباب كثيرة ومتعددة، ومن ذلك حسب رأي الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار: الذنوب والمعاصي، بعد الناس عن دينهم وهديه وقيمه، حب المال والجشع والتهافت على جمعه، استغلال بعض التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس.
وأضيف إلى ما سبق: غياب الثقافة الاستهلاكية الرشيدة، وشيوع العقلية الاستهلاكية غير المنضبطة، وافتقاد ميزانية الأسرة، والإثارة الإعلامية، وضعف دور المؤسسات المعنية بالأسعار. وهنا أشير لعدد من الحقائق المؤلمة في الموضوع.
أولاً: إن حب المال والحرص على كسبه بأي طريق، حتى ولو كان عن طريق الحرام، أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام.
ثانياً: قيام التجار والباعة الرئيسين بتخزين السلع وإخفائها من أجل التربص بارتفاع أثمانها، للتربح باقصى قدر ممكن، فيه إضرار بالناس وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات.
هنا يمكن القول إن غلاء الأسعار يحتاج إلى معالجة قوية من جهة ولي الأمر لكي يحفظ على الناس ضروراتهم الأساسية، وهذا يستدعي إمعان النظر في وضع مشكلة غلاء الأسعار والتعرف على أسبابه وكيفية معالجتها بالطرق المشروعة، ذلك أن الإسلام في نظامه المالي يقر الملكية الفردية ما دامت وسائلها شرعية وحرية التصرف في الأموال ما دام التصرف مباحاً وفق هدي الشريعة.
والقول بالتسعير فيه سد للذرائع، ومن المعلوم الثابت أن سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة، ومعلوم كما يقول الشيخ الطيار أن سد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها إلى مفسدة.
وغير خاف أن ترك الحرية للناس في البيع والشراء دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، لكنه قد يؤدي في بعض الحالات والأزمنة إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس وأقواتهم ومن ثم يقضي الوضع سد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.
وهكذا فإن القول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة ورخاء الأسعار.
الجشع والأنانية
ويشير د. الرماني إلى أبرز الحالات التي يمكن فيها التسعير من جهة ولي الأمر:
1 - حاجة الناس إلى السلعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس، فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة).
2 - حالة الاحتكار يقول ابن تيمية رحمه الله (ومثل ذلك- أي من حديث كونه يمنع- الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، لما روي مسلم رحمه الله في صحيحه (لا يحتكر إلا خاطئ).
3 - حالة الحصر: ويبين ذلك شيخ الإسلام بقوله: (وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا الا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، فهنا يجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع.
4 - حالة التواطؤ. ويوضح ابن تيمية ذلك بقوله رحمه الله: (وقد منع غير واحد من الفقهاء القسام الذين يقتسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطؤوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى).
إن القاعدة العامة في التسعير تؤكد: أنه كلما استولى على التجار الجشع وتمكن من نفوسهم الطمع وسيطرت عليهم الأنانية وعمدوا إلى الاحتكار والاستغلال، تعين على ولي الأمر التدخل بتحديد الأسعار.
وخلاصة الأمر فإنه لا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في التسعير إلا إذا اقتضت المصلحة العامة منه أن يتدخل فيكون تدخله في التسعير إنما هو للضرورة والضرورة تقدر بقدرها يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، مسعر عليهم تسعير عدل، لا وكس فيه ولا شطط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
العودة للشرع
ويقول الدكتور عبدالرحمن بن سليمان الهويسين - الداعية بالرياض: إن على المسلمين رد أمرهم إلى شريعة الله العظيمة التي تبين لهم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وتدلهم على ما ينفعهم وتحذرهم مما يضرهم.
لقد كان يتردد على آذاننا زمناً طويلاً من على منابر الجمعة، وفي قنوت رمضان.. اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والزنا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن اللهم ارفع الغلاء عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين... وربما مر علينا هذا الدعاء كغيره من الأدعية لا نشعر بقشعريرة في جلودنا لأننا لم نعرف أثر غلاء الأسعار حتى وقع بعضنا فريسة لها وضحية لمرارتها عندها تعود به الذاكرة إلى تلك الدعوات التي خرجت مبتهلة إلى ربها بأن يكشف الغلاء عن الأمة.
إن غلاء الأسعار سبب ضيقاً شديداً على الناس أما الفقراء فقد سحقهم سحقاً وأما متوسطو الحال فهم من السحق قاب قوسين أو أدنى فزيادة الأسعار في الغذاء ينتج عنه بلاء الجوع ونقص الثمرات لعف ذات اليد عن الشراء... وزيادة الأسعار في الأدوية ينتج عنه بلاء المرض لعجز المريض عن تعاطي العلاج.. وزيادة الأسعار في العقارات والبناء ينتج عنه ضيق المعيشة فيحتار الإنسان كيف يدفع ما لديه من مال هل على الإيجار والسكن أم على الغذاء والطعام...؟؟ وهكذا.. فما نسميه (التضخم) هو في حقيقة أمره وفي جوهره بلاء يتبعه بلاء. وهنا يجب أن نبحث عن أسباب هذا البلاء؟ وأن نتعامل معه بما وعظنا الله به أولاً إلى جانب البحث عن أسبابه الأخرى في المعاملات!!
ربما يكون غلاء الأسعار بسبب ذنوب ارتكبت ومعاصي غشيت وهنا علينا أن نتذكر مقولة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة).
فتذكر لعل ما نزل بنا الآن يكون سبباً لأن تعود الناس إلى ربنا فيفتح الله علينا أبواب الخير على مصراعيه كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
فإذا آمن الناس وعادوا إلى الله زالت عنهم الكروب وتلاشت عنهم الشدائد والمحن فهل من عودة صادقة؟ ومتى استغفر الناس ربهم عز وجل زالت عنهم المحنة، وانكشفت عنهم النقمة كما قال الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
بركة الإحسان
ويأسف د. الهويسين لاستغلال بعض ضعفاء النفوس ممن يسمون أنفسهم تجاراً لهذا الأمر فيما يظنون أنه يعود عليهم بالنفع حتى ولو كان على حساب مصلحة وحياة الآخرين من إخوانهم المسلمين، وتصرفهم هذا بعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى وعن منهج رسوله صلى الله عليه وسلم فربنا جل وعلا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه قد جعلا المؤمنين إخوة ولا يحق لأحد أن يبني مصلحته على ضرر أخيه مهما كانت الأسباب أو الدواعي فليحذر التجار من الجشع والطمع والأنانية، وليرحموا الفقراء والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصة للإحسان إلى الناس، وسيجدون بركة ذلك. إن شاء الله. في أموالهم وأحوالهم، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)، يعني: يقعده في مكان عظيم منها، وعذا وعيد شديد وزجر أكيد عن غلاء الأسعار ورفعها، لأن من مقاصد الشريعة المطهرة في البيع والشراء أن تسير الأسعار في طريق تحصل به مصلحة التجار ومصلحة بقية الناس من غير إضرار بأحد على حساب الآخر، وهذا من عدل الشريعة ومراعاتها لجلب المصالح ودرء المفاسد.
ووجه الهويسين رسالة إلى التجار قائلاً لهم: إن من لا يرحم لا يُرحم، ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه، ومن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فيسروا على الناس أمرهم ييسر الله أمركم، ويبارك في أموالكم واعماركم، وارضوا بما يسر الله من الربح القليل تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.. واعلموا أن هناك من عباد الله من رفعوا أيديهم فاختر لنفسك إحدى الدعوتين إما لك أو عليك.