ثم قال: ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردّنّه عليّ دينه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردّنه عليّ ساعيه، وأمّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً، (ينظر جامع الأصول لابن الأثير 1: 329 - 321).
وقد عرّف العلماء الأمانة تعريفا دقيقاً، بأنها: كل ما يخفى ولا يعلمه إلاّ الله، ومن المكلّف كذلك وألزم، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أُمروا بها، ونهوا عنها،
وقال أبو بكر بن العربي: المراد بالأمانة في هذا الحديث: الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها: أنّ الأعمال السيئة، لا تزال تُضعِف الإيمان، حتى إذا تناهى الضّعف، ولم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان، والاعتقاد الضّعيف في ظاهر القلب، فشبّهه بالأثر في ظاهر البدن، وكنّى عن ضعف الإيمان بالنّوم، وضرب مثلاً، لزهوق الإيمان عن القلب، حالاً بزهوق الحجر عن الرِّجل، حتى يقع بالأرض (المصدر السابق الحاشية 1: 320).
والأمانة أماكنها كثيرة جداً، ومنافعها إذا أديت على وجهها عديدة. حيث تأتي في كل شأن من شؤون الحياة التي ترتبط بالإنسان ومصالحه، وبدينه الذي هو عصمة أمره، وإن حرصه على الوفاء بها: رغبة فيما عند الله وامتثالاً لأمره سبحانه، بالحرص عليها، لهو أمر بالغ الأهمية، لأنّ مادتها ودلالتها تكررت في كتاب الله الكريم، مرّات عديدة، مؤكدة وغير مؤكدة، والبلاغيون يقولون: زيادة المبنى زيادة في تمكين المعنى:
- فمن أمانة جوارح الإنسان: الِّلسان بعدم إفشاء الأسرار التي اؤتمن صاحبه عليها، كما جاء في حديث روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كفّ عليك هذا) قال يا رسول الله، أنحن مؤاخذون بما نقول؟. فأجابه الصادق الأمين بقوله: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم).
وأمانة الأعمال منها الشخصي والتجاري، ومنها الأعمال الرسمية التي فيها أسرار الدولة: عسكرياً وأمنياً، وعلمياً وغير ذلك مما يتعلق بالأمن والمجتمع والأسر وخصوصيات الأفراد، وكل ما له رابطة بالدولة، والجهة التي ائتمنته عليها أهلياً أو حكومياً، فقد جُعِل الإنسان أميناً على أسرار عمله، والتعهد بعدم إفشاء ما تحت نظره، وما تناله يده عن أي مجال يتلقفه الآخرون، مما يعتبر الإفشاء فيه ضرراً بالغ الأثر، بولاة الأمر، وبالعاملين لمصالح البلاد والعباد. وما ذلك إلاّ أن: كلمة، أو معلومات عما تحت يد الموظف، ولو رآه بسيطاً، يعتبر ضرراً كبيراً على الدولة وعلى صاحب العمل، قد يُبنى عليه أمور، ذات أثر بالغ الخطورة مما دفع الجهات بالغة الحساسية في عملها أن تجعل شعار موظفيها ثلاثاً: ما رأيت. وما سمعت، وما علمت. وهذا الرمز غاية الكتمان، والمحافظة على الأمانة.
ولا يستصغرن الإنسان في الأمانة أمراً مهما تضاءل في ذهنه، فإن الطّفيف عنده لقطة ثمينة عند الأعداء، يبنون عليها جسوراً عديدة، وهذا من أهم الأمانات الأمنية. وهو من طاعة الله ورسوله، وطاعة ولي الأمر، ومعظم النار من مستصغر الشرّر.
وأمانة المجالس وما يدور فيها، من أحاديث ولو كانت عابرة، في إفشائها ضياع للمصالح، وفتح لباب الحزازات التي تسبب الكراهية، والقيل والقال، والغيبة والنميمة، التي هي الحالقة، والحسد والبغضاء، الذي يأكل الحسنات، مع الآثار السيئة التي لا تخفى على العقلاء، ولذا كانت تقال هذه الكلمة: المجالس بالأمانات.
أما أمانة العبادات، فهي أمور بين الخالق والمخلوق ودقيقة وذات حساسية ولا يقويها ويمكنها إلا الإيمان الراسخ، وتقوى الله التي هي مراقبته سبحانه في السر والعلن، فإذا قوي الإيمان، اهتم حامله بالأمانة، طاعة لله ووفاء بحقها: محافظة وتطبيقاً، ومع الخلل الذي يطرأ على الإيمان، تهون على صاحبه الأمانة فيضيعها: سواء في الصلاة. والمحافظة عليها، أو الزكاة وأداء حق الله فيها، أو الصوم في شهر رمضان، بالوفاء به كما أمر الله، سراً وجهراً فقد اختصه سبحانه له: فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، متفق عليه.
ومثل ذلك الطهارة: وضوءاً وغسلاً من جنابة، وأداء للصلاة في أوقاتها، وبأركانها وواجباتها، وشروطها، وخشوعاً بين يدي الله، تعبّداً وطاعة، واستعداداً لإجابة الملائكة عند السؤال، فإن صلحتْ صلحت الأعمال كلُّها ونجح وفلح، وإن فسدت كسدت أعماله كلّها.
وهناك الأمانة الأسرية، لأن في إفشاء أمانة ما بين الزوجين من خصوصيات كشف لما يجب ستره، وفيه تقويض للسعادة، وهدم للعشّ الأسري، حيث تتفكك دعائم الأسرة التي حماها الله بالمودة والرحمة، وقد شدّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كشف ما انستر بين الزوجين، واعتبره إثماً يجب التحرز منه.
وأما أمانة العهود والمواثيق سواء كانت بين الأفراد، حتى تستقيم الحياة بين الناس هانئة هادئة مع الوفاء والمراعاة للمواثيق والعهود، أو الاهتمام بأمانتها: بيعاً وشراء، وتعاملاً ووفاء بشروط ما تم الاتفاق عليه بدقة وأمانة، سواء في الحرف المتنوعة والاستصناع، ومراعاة لحدود البيع والشراء، فلا غشّ ولا خيانة، ولا ضرر ولا ضرار، ولا احتكار للأقوات والأرزاق ولا غير ذلك، مما يدور في فلك المجتمع بحسب ما تمليه المواثيق على الإنسان ومعاشه، وعلى الحيوانات والزراعات، وغير هذا، مما يدخل تحت الوفاء بما تم الاتفاق عليه دون اعتلاء أو اعتداء. حفظاً للمواثيق المبرمة. وانتظاماً في التعامل وفقاً لما يحدد من التزامات على كل طرف: بين الدول أو الجماعات أو الأفراد، لأن المؤمنين على شروطهم.
هذا فضلاً عن أمانة المال. والنفائس المتنوعة المحبّبة للنفوس التي جعلها الله زينة للإنسان، لأن النفوس تميل وتشتهي ذلك، ومع الشحّ والطمع تهون الأمانة باتباع الشهوات، وحب الأثرة، مما يطغى على الأحاسيس، ويضعف الوازع الإيماني لتتحرك النفس الأمارة بالسوء، فتستسلم للرغبات، وبتعاون الشيطان والهوى والنفس للسيطرة على إرادة الإنسان، لإضاعة الأمانة بعد التساهل في أدائها، ومن ثم تتخطى الحجب، لتقع في إثم الاستهانة بالأمانة، لأن من يهن يسهل الهوان عليه.
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالساً مع أصحابه يحدثهم، كما روى البخاري -رحمه الله- بسنده إلى أبي هريرة، رضي الله عنه قال: بينما رسول الله في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدّث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره، قال: وقال بعضهم: بل لم يسمع.
زواج القاضي شريح:
كان شريح قاضياً أميناً عادلاً، شاعراً ظريفاً، جاء في كتاب أخبار القضاة عن الشعبي عن شريح قال: تزوجت امرأة من بني تميم بكراً، يقال لها: زينب، فلما تزوجتها أسقط في يدي، فقلت جفاء بني تميم وأكباد الحمر.
فلما كان ليلة البناء: فقمت إلى المحراب لأصلي ركعتين، فنظرت في أقفاي فقلت: إحدى الدواهي، فصليت ركعتين، فلمّا سلَّمت استقبلني ولائدها بملحفة تكاد تقوم قياماً من الصبغ، فلبستها ثم جلست إلى جنبها، فمددت يدي إليها، فحمدتْ الله وأثنتْ عليه وشهدت بشهادة الحق ثم قالت:
أما بعد، فإنه كان في قومك مناكح، وكان في قومي مثل ذلك، وإنك نكحتني بأمانة الله، يقول الله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أحب أن تخبرني بكل شيء تحبه فأتبعه، وبكل شيء تكرهه فأجتنبه، أقول قولي هذا، ويغفر الله لي ولك.
فحمدتُ الله وأثنيتُ عليه، وشهدت شهادة الحق، ثم قلتُ: أما بعد فإنك قد تكلمت بكلام إن تتمّي عليه، يكن حظاً لك ونصيباً، وإلا تتمّي عليه، يكن عليك حجة: نحن جميعاً فلا نفترق، ما سمعتِ من حسنة فأفشيها، وما سمعت من سيئة فادفنيها: أقول قولي هذا، ويغفر الله لي ولك، ثم مددت يدي إليها، فقالت: على رسلك، أخرى لم أذكرها في خطبتي: ولم أسمعك ذكرته، هل تحب زيارة الأهل؟. فقلت: ما أحب أن تملّني أختاني.
فأرسلت إلى أمها: عزمت عليك لا تأتيني إلى رأس الحول من هذه الليلة. قال: فبينا أنا ذات يوم راجعاً من عند الأمير، إذا أنا بامرأة إلى جنبها تأمر وتنهى. قلت: من هذه؟ قالت: أمي، والله ما علمت أن لها أماً، حتى قمت في مقامي هذا.
فقلت الأم: كيف رأيت أهلك؟ قلت: قد أحسنتم الأدب، وكفيتم الرياضة، فبارك الله عليكم، قالت: وأنت: إن رأيت منها شيئاً، فعليك بالسَّوط فإن شرّ من أدخل الرجل الورهاء المحمقة (أخبار القضاة 2: 206).