محكمة العدل الدولية هل هي إحدى ملامح النظام العالمي الجديد أحادي القطب؟ هل هي التي تفرز وتقرّر أجندة المذنبين والمشاغبين بحسب خارطة مسبقة لتقسيم العالم؟ ولكن مذكرة التوقيف التي أطلقت بحق الرئيس السوداني لم تنبثق فجأة من الفراغ, أو بطريقة عشوائية بالتأكيد سبقها تصعيد إعلامي طويل على عدد من المنابر الدولية حتى أطبق فكي الكماشة حول النظام الحالي في السودان.
الذي يلفت النظر هو طريقة إدارة الأزمة ومواجهتها في السودان، فالعراق في وقت النظام السابق كان حينما تحدق به الأزمات كان يديرها عن طريق إشعال أبواق الحروب الكلامية, وتقاذف المفردات النارية والشتائم لتصعيد الأزمة وليس إدارتها، وكأن القضية هي حرب شوارع بين جماعتين من الأشقياء وليس مقامرة بمصير وطن ومستقبل شعب.
جزء من هذا المشهد نراه الآن يتكرّر في السودان على الرغم من خطورة الموقف وصعوبته.
على حين من الجانب الآخر، نجد أن النظام في سوريا عبر فترات حكمه داهمته أزمات وخطوب شتى، جعلته يمتلك الدهاء بالكمية التي تجعله يتقن المناورات السياسية والالتفاف عليها بحذاقة ماكرة، على سبيل المثال في تلك اللحظة التاريخية التي تهاوى فيها تمثال صدام في ساحة الفردوس في بغداد، وكانت الولايات المتحدة ما زالت في أوج قوتها وعنفوانها في المنطقة ولم تتلوّث بعد بالخسائر والهزائم في العراق، وقتها تسلّطت الأضواء بشدة على النظام السوري، كونه أحد الأنظمة التي تعتبرها أمبراطورية العالم المتسلِّطة (أنظمة مشاغبة داعمة للإرهاب)، ولكن المناورات السياسية التي يتقنها النظام في سوريا استطاعت أن تلتف وتراوغ، فسوريا من ناحية رسخت تحالفها الإستراتيجي مع إيران، ومن ثم سحبت جيوشها الموجودة في لبنان ولكن بالتفاف تكتيكي أبقى لها حضوراً في الساحة اللبنانية عبر علاقتها الإستراتيجية مع حزب الله وتنظيماتها من وراء الكواليس لتحركات المعارضة اللبنانية، إضافة إلى حدودها المرنة للدخول والخروج فيما يتعلّق بهذه الأزمة، فضلاً عن تعاملها مع الأزمة العراقية.
كل ذلك كانت أوراق ضغط مشتعلة وملفات ساخنة تستطيع الآن أن توظفها على طاولة المفاوضات بعدما أبقت جميع أبواب الحلول الدبلوماسية مشرعة وقابلة لجميع الاحتمالات، ومن ثم في النهاية فاجأت العالم بقبولها الدخول بمفاوضات مع إسرائيل برعاية أمريكية.
أيضاً الدول الكبرى الآن مثل فرنسا تسعى إلى استقطاب سوريا كشريك رسمي في مفاوضات السلام على اعتبارها تمتلك أهم مفاتيح الحل في المنطقة، فنرى الرئيس السوري يتصدر طاولة المباحثات في فرنسا، ونراه في وقت آخر يتصدر المؤتمر الدولي الذي ترعاه فرنسا (من أجل المتوسط).
سوريا حذقت تقديم الخطاب المزدوج الأول متخم بالشعارات الحماسية والخطب الرنانة للتسويق للعامة وقومجية العالم العربي، والآخر من خلال القفازات الأنيقة التي ترتديها في المحافل الدولية، وبهذا أدارت أزمتها وأصبحت قضية المحاكمة الدولية لقضية اغتيال الحريري هي مجرد ورقة جانبية تستعمل للمساومة والضغط أثناء المباحثات السرية مع الدول الكبرى، والبعض يؤكِّد أنها ستختفي تحت طاولة المفاوضات ويتآكلها النسيان.
ولعل السودان يصل إلى حلوله عبر مناورة الأزمة ومراوغتها والتخلي عن لغة التصعيد والتشنّج والمفردات النارية.