بدا الأمر طيلة أسبوعين كاملين وكأن النظام في إيران أدرك أخيراً الرسالة وفَهِم أنه إذا ما استمر في ملاحقة برنامجه النووي فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى مواجهة عسكرية خطيرة. والحقيقة أننا سمعنا تصريحات مشوّقة - لم نسمع لها مثيلاً من قبل - وإشارات من طهران أوحت برغبة متزايدة في البدء في المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي والقضايا الأمنية الإقليمية. وكان القرار الذي اتخذته أميركا بإرسال نائب وزير خارجيتها وليم بيرنز للاجتماع بكبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بمثابة التأكيد على استقبال العالم لهذه الإشارات بجدية.
بيد أن استعراض العضلات العسكري الأخير واختبارات الصواريخ ورفض الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ووزير خارجيته إبداء أي قدر من التعاون، كل ذلك يؤكّد أن القيادات الإيرانية منقسمة إلى حد خطير بشأن الخط الإستراتيجي الذي يتعين على إيران أن تسير عليه.
فما زالت القيادات الإيرانية تعتنق تصوراً مغلوطاً بأن التهديدات الإسرائيلية ضد منشآتها النووية يعبّر عن المصاعب الداخلية التي تواجهها حكومة رئيس الوزراء إيهود أولميرت. وهذا خطأ واضح. لا شك أن حكومة أولميرت تواجه مشاكل خطيرة، إلا أن هذه المشاكل ليست السبب وراء تَعَقُد الموقف بين إسرائيل وإيران.
بل إن الأمر على العكس من ذلك، فقد نشأ في إسرائيل الآن نوع من الإجماع بين كافة الأحزاب بشأن التسلح النووي المحتمل في إيران والطموحات الإيرانية في فرض هيمنتها الإقليمية. فالأطراف كلها متفقة على ضرورة منع إيران من حيازة الأسلحة النووية في الوقت المناسب وبكافة السبل اللازمة، ما لم يتم التوصل إلى حل دبلوماسي. فضلاً عن ذلك فإن المملكة العربية السعودية وبعض الدول العربية تشاطر إسرائيل نفس وجهة النظر هذه، ولو من وراء الأبواب المغلقة.
إذا ما تبنت إيران توجهاً أكثر واقعية، فإن الأمل ما زال قائماً في التوصل إلى حل دبلوماسي. وكانت طهران قد استقبلت على نحو طيب العرض الأخير الذي تقدّمت به مجموعة ال5+1 (الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا). فإلى جانب التعاون السياسي والاقتصادي الشامل، يَعِد ذلك العرض بالتعاون في المسائل النووية، بما في ذلك إنشاء أحدث مفاعل نووي يعمل بالماء الخفيف في إيران وتزويده بالمواد والمعدات اللازمة، فضلاً عن السماح لإيران بالحصول على سبل البحث والتنمية في المجال النووي - بشرط التوصل إلى تسوية سلمية عن طريق المفاوضات.
إلا أن الجديد في الأمر حقاً أن إيران ردت بصورة إيجابية أيضاً على الصيغة المقترحة من جانب مجموعة ال5+1 . وفي مرحلة ما قبل المفاوضات فإن هذا يعني أن إيران سوف توافق على الامتناع عن إنشاء أي معدات جديدة للطرد المركزي، وهي المعدات اللازمة لزيادة حجم اليورانيوم في مرحلة تخصيبه، بينما تتعهد مجموعة ال5+1 بالتوقف عن الدعوة إلى فرض عقوبات جديدة في مجلس الأمن.
وبمجرد أن تبدأ المفاوضات فمن المفترض أن تمتنع إيران عن إجراء عمليات تخصيب اليورانيوم وكافة الأنشطة المرتبطة بذلك لمدة ستة أشهر، تحت إشراف الهيئة الدولية للطاقة الذرية - وهو الأمر الذي ظلت الحكومة الإيرانية ترفض مجرد مناقشته طيلة الأعوام الأربعة الماضية. ومن جانبه يفترض في مجلس الأمن أن يعلّق كل مداولاته المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني.
إن الهدف من هذه المفاوضات يتلخص في التوصل إلى اتفاق شامل بين إيران ومجموعة ال5+1 لحل النزاع النووي ومخاطبة القضايا الأمنية الإقليمية (العراق، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولبنان، والخليج الفارسي، وأفغانستان) وفتح الأبواب أمام التعاون الإقليمي والدولي الموسع.
كما انطلقت من إيران إشارات مفادها أن السلطات الإيرانية، بعد أن نجحت في إتقان تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم، ربما تفكر في الاستمرار في التخصيب في بلد ثالث في إطار اتحاد شركات مع الغرب. ومن المعروف أن عرضاً مماثلاً تقدّمت به روسيا قبل مدة قصيرة فقط قوبل في إيران بالرفض على نحو شديد الفظاظة.
بالإضافة إلى ما سبق، ورغم عدم وجود أي استعداد لقبول الهيمنة الإسرائيلية، بدأت النبرة تتغير في الحديث عن إسرائيل. أما تعليقات أحمدي نجاد المعادية للسامية فقد كانت في الآونة الأخيرة موضعاً للانتقاد الواضح من جانب وزير الخارجية الإيراني السابق على أكبر ولاياتي الذي يعتبر واحداً من أقرب المقربين من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية. كما أشار المتحدث الرسمي الإيراني إلى وجود وعي رسمي بأهمية إسرائيل فيما يرتبط بالتوصل إلى حل إقليمي شامل، وأن التعامل مع إسرائيل لم يعد بالأمر غير الوارد كما كانت الحال سابقاً.
الحقيقة أننا لم نسمع مثل هذه النبرة طيلة السنوات الماضية منذ تولى أحمدي نجاد السلطة. ولكن هل إيران جادة حقاً؟ أم أن كل ذلك مجرد تكتيكات المقصود منها المماطلة؟ وهل تريد الحكومة أن تشتري الوقت مرة أخرى حتى تنتهي الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ وإذا ما وضعنا في الحسبان التناقضات العامة في سلوكيات القيادات الإيرانية، فهل نستطيع الخروج بموقف إيراني جدير بالثقة، وإذا كان الأمر كذلك فمن يمثّل ذلك الموقف؟ لن يتسنى لنا الإجابة على كل هذه الأسئلة الحرجة إلا من خلال الاختبار العملي المتمثّل في المفاوضات، وهذه المرة بمشاركة أميركية مباشرة.
إذا كانت إيران جادة فإن النتيجة قد لا تقل عن التوصل إلى (الصفقة الكبرى) التي طالما انتظرناها - التوفيق الإقليمي للمصالح بين إيران من جانب، وأميركا وأوروبا وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على الجانب الآخر.
ولكن إذا كانت إيران تسعى إلى كسب الوقت لا أكثر، فلا نملك إلا أن نصف مثل هذا السلوك بقِصَر البصر والحماقة. إذ إن الصراع، وبالتالي خطر المواجهة العسكرية، لن يتبخر في ظل إدارة أميركية جديدة، بل إن الأمر على العكس من ذلك. ففي حالة فشل المفاوضات سوف تندلع المواجهة من جديد في وقت قصير، ولسوف تكون أشد خطورة.
لن يتخذ الرئيس الأميركي القادم، سواء كان جون ماكين أو باراك أوباما، موقفاً أكثر تساهلاً من موقف الإدارة الأميركية الحالية في التعامل مع طموحات الهيمنة الإقليمية الإيرانية وبرنامجها النووي، بل إن فشل الحل الدبلوماسي من شأنه أن يدفع الإدارة الأميركية الجديدة إلى الرد بقدر أعظم من القوة. وعلى هذا فمن الأهمية بمكان أن نعطي الدبلوماسية الفرصة، خاصة بعد أن أصبحت في حكم الممكن الآن.
إذا كانت القيادات العليا في طهران قد أدركت أنه من المنطقي ومما يصب في مصلحة إيران الآن أن تعمل على ترسيخ النجاحات التي حققتها سياستها الخارجية أثناء السنوات القليلة الأخيرة، وتثبيت قدمي نظامها، بدلاً من المجازفة بكل شيء في مواجهة عسكرية لا يمكن التكهن بنتائجها أو عواقبها، فإن الفرصة متاحة للتوصل إلى حل دبلوماسي. وإن لم يكن الأمر كذلك فلسوف تندفع المنطقة إلى مواجهة ساخنة.
يتعين على قادة إيران الآن أن ينتبهوا إلى الحكمة الراجحة في القول المأثور: (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة).
***
يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها أثناء الفترة من 1998 إلى 2005 كما تولى زعامة حزب الخضر
في ألمانيا لمدة تقرب من العشرين عاماً.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - معهد العلوم الإنسانية، 2008 .
خاص بـ(الجزيرة)