أحببت في صباي مادة الجغرافيا، وهويت رسم الخرائط وتلوينها، وكنت أبدع في رسم تدرج اللون الأزرق على البحار الكبيرة والمحيطات، وقد ساعدني ذلك على معرفة أسماء المدن المهمة في كل دولة، وكنت أكثر انجذاباً للمدن الواقعة على رؤوس البحار، ولما كانت متعة الاهتمام بجغرافية البلدان والمدن لا تتم إلا بمعرفة تاريخها، فقد أحببت مادة التاريخ ووقفت عند تاريخ المدن التي شهدت عصوراً وأحداثاً، وكانت مدينة طنجة بالمغرب العربي من المدن الساحلية التي وقفت أمام موقعها وسرحت بخيالي عندها طويلا، إذ ارتبطت في ذاكرة صباي بعبور طارق بن زياد البحر منها إلى الأندلس وبالرحالة الشهير ابن بطوطة الذي خرج منها ليجوب الدنيا، وكنت في تلك السن الباكرة أقرأ رحلاته، وأذكر أني أبدعت في رسم موقع طنجة وبذلت مجهوداً في التمييز بين لون البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتمنيت وقتها الوقوف عند ملتقى البحر والمحيط. |
وظلت هذه الأمنية بين الحنايا على مرّ السنين، وعندما زرت المغرب العربي لأول مرة في شهر مارس سنة 2004م ذهبت إلى شاطئ الدار البيضاء، ووقفت على المحيط الذي طالما وسمته وتخيلت ما وراءه، وجدت في قلبي حنيناً لزيارة طنجة لكني لم أستطع إلا في زيارتي الثانية للمغرب العربي في أكتوبر 2007م حيث زرت مراكش لأول مرة، ولما لم أجد أحداً من الزملاء يستجيب لمصاحبتي لطول المسافة من مراكش إلى طنجة عزمت على السفر وحيداً قائلاً لنفسي: لا بد من طنجة وإن طال السفر! |
لا يوجد قطار مباشر من مراكش إلى طنجة، فكان لابد من الذهاب أولاً إلى محطة المسافرين بالدار البيضاء ومن ثم الحجز من هناك، كان لابد أن أسافر إلى الدار البيضاء في القطار الذي يتحرك فجراً من مراكش لكي أتمكن من اللحاق بالقطار الذي يسافر قبل الظهر إلى طنجة، فالطريق من مراكش إلى الدار البيضاء حوالي ثلاث ساعات أو أكثر، فكانت مغادرتي مراكش في اليوم التالي لانتهاء أعمال المؤتمر الذي شاركت فيه، وفي محطة القطار بمراكش وجدت الزميل الدكتور سعد أبو رضا العائد إلى الرياض من مطار الدار البيضاء فاصطحبنا، ومضى الطريق سريعاً في أحاديث مفيدة وممتعة لم أشعر معها بمرور الوقت، فتذكرت الأبيات الشهيرة التي تقول: |
تغرب عن الأوطان في طلب العلا |
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد |
تفرجُ همٍ، واكتساب معيشةٍ |
وعلمٌ ، وآداب، وصحبة ماجد |
وقد وجدت في الدكتور سعد أبو الرضا الصاحب الماجد وأفدت من علمه وأدبه الغزيرين، وافترقنا في محطة القطار وذهبت في حال سبيلي أشتري تذكرة القطار الذي يحملني إلى طنجة. |
علمت أن الطريق إلى طنجة حوالي سبع ساعات بالقطار، وذهبت للتأكد من موقع انطلاق القطار ثم عدت للتجول في المحطة فاشتريت بعض الصحف المغربية الصادرة باللغة العربية وجلست أقرأ حتى حان موعد الرحيل فأخذت مقعدي في المقصورة وشعرت بحسرة خسران رفيق السفر حين رأيت الناس يصعدون القطار في جماعات أقلها اثنين وأنا وحدي، فواسيت نفسي بقول المتنبي (وخير جليسٍ في الزمان كتابُ) وكان معي منذ وصلت المغرب لا يفارقني كتاب الدكتور أنيس مؤنس رحمه الله (تاريخ المغرب) وهو مجلد ضخم، إذ أن من عادتي أن لا أرتاد مكان انتظار قصير أو طويل إلا ومعي كتاب ولا أسافر إلا ومعي كتاب أو كتب عن تاريخ البلد الذي أسافر إليه حتى أستطيع أن أعيش الحاضر من خلال الوعي بالماضي، فإني أقف في المكان أشاهد الواقع وأتصور - في الوقت نفسه - بخيالي ما شهده هذا المكان من أحداث تاريخية. |
كنت أول من دخل المقصورة وبقيت فترة لوحدي فيها ولكن قبل تحرك القطار بقليل دخل رجل وامرأة مغربيان يبدو من الرجل أنه في أواخر الأربعينيات والمرأة في الثلاثينيات وتمنيت أن يكون مقصد هذين الزوجين طنجة أو أنهما من أهل طنجة، وأجلت مبادرتهما الحديث حتى تقطع مسافة وانهمكت في القراءة والفرجة على الطريق وقراها ومحطاتها، فكانت أول محطة مررنا بها محطة المحمدية تليها الرباط العاصمة، ومن هناك بدأ التعارف بيني وبين الزوجين إذ عندما مرت بنا عربة الخدمة أصر الرجل على أن يدفع عني قيمة الشاي الذي طلبته، فأكبرت فيه كرمه وبدأ الحديث بيننا، وشعرت براحة عندما عرفت أنهما يقصدان طنجة فزوجته من سكانها، وتبادلنا الأحاديث الممتعة عن المغرب والمشرق وكان لهما الفضل في تعريفي بمحطات القرى والبلدات التي يمر بها القطار في الطريق إلى طنجة، فمررنا بعد الرباط وسلا بمحطة سيدي سليمان ثم لما وصلنا لمحطة سيدي قاسم عرفت إننا سنغير القطار، فانتقلنا إلى قطار آخر دون انتظار ومررنا بعد ذلك بمحطات بلدات مشرع بالقصيري وسوق الأربعاء والقصر الكبير، وكان القطار يتراوح بين السير بمحاذاة البحر والابتعاد عنه، ومرت الساعات سريعة بين القراءة ومتعة الحديث مع الزوجين المغربيين وتأمل المناظر التي نمر بها حتى وصلنا إلى أصيلة آخر أكبر محطة قبل طنجة، إذ تقع على بُعد 40 كيلومترا جنوب طنجة، وكنت قد سمعت عن الأنشطة الثقافية التي تشهدها أصيلة، فكما أطلق على طنجة عروس الشمال المغربي فقد سميت أصيلة بنجمة الشمال المغربي، وعجبت لصغرها وتواضعها الذي لم يكن على مستوى سمعتها الكبيرة، فسكانها لا يزيدون عن 35000 نسمة وأدهشني طابعها المعماري فاللون الأبيض الطاغي على معظم بيوتها يذكرني بالمدن الواقعة على الجزيرة العربية وقد فاقت أصيلة على صغر حجمها مدن المغرب الكبيرة بعد أن أصبحت مقراً لموسم ثقافي دولي منذ سنة 1980م يفد إليها الزوار والسواح والأدباء والمفكرون من مختلف أنحاء العالم، ومن مروري العابر بها رأيت بها بساطة الجمال والطبيعة الرائعة حيث تحتضنها مياه المحيط الأطلسي بحفات ورأيت شبهاً كبيراً بينها وبين مدينة المكلا بحضرموت اليمن التي تتكسر على جدران بيوتها اليبضاء أمواج المحيط الهندي، وقد وجدت فيما قرأت عن تاريخ المغرب أن أصيلة مدينة قديمة يعود تاريخها إلى 3600 عام وقد حار المؤرخون في تسميتها هل هي اصيلة أم أزيلة كما ورد عند بطليموس؟ وقد سماها الاغريق زيليس وسماها آخرون أرثيلا، وأرجح أن كلمة أصيلة العربية مشتقة من كلمة أزيلا الامازيغية التي تعني الجمال، واصيلة بالفعل جميلة من خلال الوقفة القصيرة بها، وأتمنى أن أعود إليها للبقاء بها أياماً، ولكن القطار واصل سيره وكان ذلك بعد الغروب الجميل الذي رأينا فيه قرص الشمس على شاطئ أصيلة يختفي خلف مياه المحيط كفتاة احمر خداها حياء فتوارت، وبحلول المساء كنت على مشارف طنجة فشدني إليها الشوق القديم الذي انساني احمر خدود أصيلة!! |
|