مع إشراقة الصباح، كانت أنفاس النسيم العليل في مدينة الطائف تمسح بأناملها الرقيقة ما تصل إليه من أوراق الريحان والبعيثران والياسمين المحيطة بي وأنا جالس في فناء المنزل أرى المعنى الحقيقي البديع لقول الله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، ساعات صباح مشرق هادئ تملأ النفس حيويةً وانشراحاً. مددت معها يدي إلى كتاب ربيع الأبرار ونصوص الأخبار للإمام محمود بن عمر الزمخشري وهو الكتاب الثالث عشر من سلسلة إحياء التراث الإسلامي الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في العراق سابقاً، وفتحت إحدى صفحاته لأبدأ منها رحلة الإمتاع والجمال فيما نقل المؤلف من روائع وبدائع مواقف الحِلْم وحسن الخلق. أهلاً بكم في هذه الرحلة.
سيِّد مدرسة الحلم وحسن الخلق هو محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام الذي كان يسبق حلمُه غضبَه، ولا يزيده جهل الجاهل عليه إلا حلماً، وكان لا يغضب لنفسه قَطُّ، وهو الذي يقول عنه أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أنْ أذهب، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون، فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قبض قفايَ من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: أُنيس، إذهب حيث أمرتك.
قال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجلس ويحدثنا فإذا قام قمنا قياماً واحداً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه فحدثنا يوماً، فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجبذه بردائه فحمَّر رقبته وكان رداؤه خشناً، فالتفت فقال له الأعرابي: احملني على بعيريَّ هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك، فقال: لا واستغفر الله، لا واستغفر الله، لا واستغفر الله، لا أحملك حتى تُقِيْدَني من جَبْذتك، فكل ذلك يقول له الأعرابي: لا أقيدكها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال له: احمل له بعيريه هذين، على بعيرٍ شعيراً، وعلى بعير تمراً.
قال رجل لآخر: لو قلت َعني واحدةً لسمعت عَشْراً، فقال له: لو قلتَ عني عشراً لما سمعت واحدة منها، وسبَّ رجلٌ رجلاً فلم يلتفت إليه، فقال: إيَّاك أعني، فقال: وعنك أعرض.
قال رجل ممن كان مبغضاً لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - نعوذ بالله من ذلك -: دخلت المدينة فرأيت رجلاً على بغلة، لم أر أحسن لباساً منه، ولا أَفْرَهَ مركباً فسألت عنه، فقيل: الحسن بن علي رضي الله عنهما، فدنوت منه فقلت: أنت ابن أبي طالب؟ قال: أنا ابن ابنه، قلت: فبك وبأبيك، أسبُّهما، قال الحسن وهو يبتسم: كأني بك غريب، قلت: أجل، قال: إن عندنا منزلاً واسعاً ومعونة على الحاجة ولدينا مالاً نُواسي به، فانطلقت معه متعجباً من سعة حلمه، وغادرته وما على وجه الأرض أحبَّ إليَّ منه.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أوّل ما يجني الحليم من حلمه أنَّ الناس أنصاره على الجاهل، وقالت العرب: الحليم سليم، والسَّفيه كَليم (أي جريح)، وقالوا: ما تقلَّد الإنسان قلادةً أحسن من الحلم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الحلم سيِّدُ الأخلاق، ومن طرائف ما نقل عن حليم العرب الأحنف بن قيس أنه قال: ما يسرُّني بنصيبي من الذلّ حمر النعم، فقيل له: كيف تقول هذا وأنت من أعزِّ العرب، فابتسم قائلاً: إنَّ عامَّة الناس يرون الحِلْمَ ذُلاً. من طرائف الأحنف أنه جاء إلى بعض الأمراء زائراً فوقف بالباب ينتظر الإذن بالدخول، فمرت به امرأة تحمل قربة ماء، فقالت: يا شيخ احفظ علي قربتي حتى أعود جزاك الله خيراً، فخرج إليه الحاجب يطلب منه الدخول على الأمير، فقال الأحنف: إنَّ معي وديعة لا أستطيع تركها، ولم يزل قاعداً حتى جاءت المرأة وأخذت قربتها.
قال محمد بن عجلان الناسك: ما أظن شيئاً أشدَّ على الشيطان من عالم معه حلم، إنْ تكلَّم تكلَّم بعلم، وإنْ سكت سكت بحلم، وهو في سكوته أشد على الشيطان منه في كلامه، اللهم جمِّلنا بالحلم وحسن الخلق.
إشارة:
الحِلْم سيِّد الأخلاق.
www.awfaz.com