في اليومين الماضيين تحدث الكثير عن الوالد الكريم الشيخ محمود طيبة.. قالوا كلاماً كثيراً.. ولم يقولوا والحمد لله إلا خيراً، ولكني رأيت ومن باب الوفاء أن أتحدث عنه ولو بشيء قليل وإلا فمهما قلت فلن أفيه حقه، فحقه عليّ كبير جد كبير.
لقد كان رحمه الله موسوعة في الخلق الفاضل الرفيع.. جمع في جنباته مكارم الأخلاق، وأنبل الصفات.
كان رحمه الله حثيث السعي لرضا الله، فلطالما أقدم وأحجم مراقباً الله ورضاه في إقدامه وفي إحجامه، لقد كان الله ومراده هو الفلك الذي يدور فيه طوال حياته، كان يتلمس رضا الله مع ولاة الأمر، ومع الرؤساء والمرؤوسين، كان يتلمس رضا الله مع أهله الأقربين والأبعدين، مع الأصدقاء مع الأحباء ومع الخدم، مع كل شخص وفي كل موقف كان ينظر لرضا الله، فمن كان ينظر دوماً لرضا الله بالله عليكم أخبروني كيف تكون سجاياه!!.
كان رحمه الله رحمة واسعة شديد الحرص على المال العام، وقد تحدث الكثير عن حادثة رفض الوالد العزيز للرشوة، وهي حادثة مشهورة، أعرف أن كثيراً من الشرفاء كان سيقف نفس موقفه - رحمه الله - في رفض الرشوة، ولكنه كان غفر الله له أشد ورعاً في المحافظة على المال العام، فقد كان دائماً ما يحثنا بل ويشتد علينا للاقتصاد في استخدام الكهرباء، وكان دائماً يردد أن الكهرباء تكلف الدولة أكثر مما تكلف المواطن، وأنه يجب التوفير قدر المستطاع للدولة، بل كان يضع الملصقات عند كل مكبس كهرباء للتذكير بالاقتصاد في استخدام الكهرباء، وكذلك كان يفعل في استخدام الماء، بل كان حريصاً غاية الحرص ألا نستخدم الأوراق التي كانت توفرها له الدولة في استخدامنا الشخصي حرصاً منه وتورعاً رحمه الله في استخدام المال العام، وهكذا علمنا أن الإنسان قد يكون حراً إلى حد ما في ماله الشخصي، أما عندما يتعلق الأمر بالمال العام فينبغي الحذر والحرص.
وقد كان رحمه الله له فلسفته الخاصة في العمل والراحة، وقد كان يردد دوماً إن المسلم ليس له إجازة في الدنيا وحتى عندما كنا نسافر معه رحمه الله في الإجازات الصيفية كان يملأ جل وقته بأعمال متفرقة بعضها خاص بعمله كرجل في الدولة وبعضها في العمل الخيري، كانت طريقته العمل بصمت، لم يكن رحمه الله يحب الكلام الكثير أو التنظير، تنساب الأعمال بسلاسة من جوارحه بلا تكلف ولا تشدق.
كان رحمه الله رجلاً نقي السريرة طاهر القلب سليم الصدر، لا أذكر أني سمعته يذكر أحداً بسوء، بل كان وبسجيته يلتمس الأعذار لكل الناس، سألته أختي يوماً كيف كان يتعامل مع الكائدين والحساد في مجال العمل - ولا يخلو مجال عمل من هذه النوعية - فقال: وأين هم الحساد؟ لم يكن يتكلف بل كان لطهارة قلبه لا يرى إلا الخير.
كان - رحمه الله - مربياً ذا طريقة متميزة في التربية، لا أذكر أنه وقف أمامي يوماً محاضراً أو مؤنباً، لم يفرض عليّ قراراً وإنما جعل من نفسه قدوة حية وأنموذجاً مثالياً يتحرك أمامنا، غرس في قلوبنا حبه فلم نملك إلا أن نحتذي به، نبئوني أليست هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان رحمه الله راضياً عن الله تمام الرضا، فقد كان حقاً مثال الرجل المستسلم لقضاء الله، الشاكر لله دوماً وعلى كل حال، لم يتذمر أو يشتكي يوماً لفقد مال أو عزيز، كان جوابه الذي لا يتغير كلما سأله أحد عن حاله، الحمد لله على خير ما تحب، حتى في مرضه الذي توفي فيه، عندما غدت ملامح وجهه مسرحاً لمعالم الألم، كنا إذا سألناه عن حاله يقول: الحمد لله على خير ما تحب، وعندما اشتد به المرض فأثقل لسانه كان يشير بيديه إشارة تعني أنه بخير ثم يشير إلى السماء قاصداً الحمد لله، واسمحوا لي أن أصف تلك الأيام واللحظات.. عندما كان يتألم فتصدر منا الآهات أو يتأوه فتصيبنا الآلام، كان المرض يزحف في جسده فيصيبنا النحول والهزال، يبتسم مع شدة الألم فنبكي متعجبين من ثباته، وتحشرجت في الصدر روحه، وضاقت في صدورنا الأرواح، وبردت أوصاله، وارتعدت أوصالنا وفاضت روحه ففاضت دموعنا، وشخص للسماء بصره وشخصت لرب السماء أبصارنا، علت البسمة محياه بعد طول عناء، وارتسمت على وجهه الطاهر الراحة فحارت عقولنا نرتاح لراحته.. أم نحزن لفراقه.. ذاك أبي الذي فقدت كان شمساً مضيئة.. وجبلاً شامخاً.. ووتداً راسخاً..
اللهم إني أشهدك انه كان بنا كريماً فأكرمه.
اللهم إني أشهدك أنه كان بنا رحيماً فأكرمه.
اللهم إني أشهدك أنه كان بنا محسناً فأحسن إليه.
اللهم أحسن نزله وارفع في الصديقين درجته وأجمعنا به في مستقر رحمتك.