كنت في البداية أحاول ألا أستمع لما يدور من كلام لئلا يكون في ذلك نوع من اختلاس الصخب إلا أنني ما لبثت أن أحسست بأن ما يدور من حديث ليس مجرد كلام، بل هو على ما يبدو تحوّل في إستراتيجية شهرزاد لاستعادة زمام حياتها بيدها وكأنها أدركت أن حكايات الليل لم تعد تدفع خطراً أو تطيل حياة في عصر الفضائيات والإنترنت فقرّرت أن لا تمتنع عن الكلام المباح إذا ما طلع الصباح. ...
.....أشعر بحرقان في فم المعدة ولا أدري هل ذلك بتأثير ازدياد وزني بعد زواج زوجي وطلبي للخلع منه أو بتأثير الحر الشديد في حجرات بيتي الضيِّق التي تركني وأطفالي فيها وحدنا وذهب يصطاف دون استجابة لطلب الاستدعاء. لكن هيهات وين بروح والله لألاحقه في طلب حقي لو طلع المريخ.
أما أنا فإنني هنا للعلاج من هذا الصداع النصفي الذي يلم بي مطلع كل شهر وراتب عملي ما إن يظهر على شاشة الصراف الآلي حتى ينمحي كهلال يلاحقه محاق فيما يذهب لتسديد الأقساط الشهرية والفواتير وغيرها من الالتزامات المالية الصغيرة التي أدفعها كحمل لا ينتهي من شهر لآخر. هكذا قالت بصوت غير خفيض إحدى السيدات للأخرى من خلف نقابها الذي لا يبين منه إلا التماعات عينيها بما يشبه التماعات السراب أو الدمع بينما نحن مجموعة من النساء في قاعة الانتظار بإحدى العيادات الطبية.
وكنتُ أنا نفسي أشعر بالحموضة وارتفاع الضغط وقد كنتُ أتابع من الجريدة التي تكاد تحجب وجهي, أخبار تنقلات جورج بوش الوداعية الأخيرة للمنطقة وهو يبيع الوعود ويوزع شهادات حسن السيرة والسلوك مقابل زيادة الإنتاج النفطي والمساومة على ارتفاع سعره مع التمسك بالدولار المتهاوي. إلا أنه فيما بقيت أعالج آلامي في داخلي بصمت, لاحظت تحول ما حولي إلى (ساحة كلام صريح) كنتُ قد خلته غير مباح في فضاء عام أو مقتصراً في أحسن الأحوال على جلسات الجارات في فضاء بيتي مغلق.
كنتُ سأبقى على اعتقادي المسبق بأن ما وصل سمعي من (خواطر مصرحة) تعبير نادر في عادات مجتمعنا السعودي الذي عادة ما يتسم بالتحفظ والتكتم على أسراره الأسرية والاجتماعية الصغيرة أو الكبيرة إلى أن يتحول الجرح الصغير إلى حالة من القرحة المبرحة المزمنة لولا أن عدوى البوح الصريح قد سرت بين النساء فأخذت كل منهن تحكي أشجانها وتكشف عن اللوعات اليومية والقلق الليلي الذي يؤرّقها أو أفراد أسرتها وهم يتبادلون المشورة في الحلول وجهاتها المسؤولة حتى كدتُ أن أقوم من مكاني لأتأكد ما إذا كنتُ في قاعة انتظار لعيادة طبية أم في جلسة برلمانية مصغّرة تختص بطرح بعض الإشكاليات الاجتماعية مما تعتلج همومه في الصدور.
إذ انبرت سيدة خمنتُ أنها في منتصف الخمسينات من أسلوب حديثها، فقد كانت هي الأخرى تغطي وجهها ولا تكتفي بالنقاب على الرغم من أننا في قاعة انتظار خاصة بالسيدات وأخذت تقول: (والله إن المر القاطع سبدي - (كبدي) هو من هالشباب اللي تعبنا عليهم وشحينا عن أنفسنا وقت الله الله وأعطيناهم علشان يدرسون ويتوظّفون لينفعوا أنفسهم وينفعونا في كبرنا, ومساكين ما جاهم وجانا من سنين الشقا إلا أننا نشوفهم متبطحين, نيام إلى ما بعد العصر في المكيفات, بعد ما ملوا من التطامر بهالعلاقي الاخضر يتطررون الوظيفة)
أما تلك الصبية التي ربما كانت مقبلة للتو على العشرينات وقد كانت محتشمة بلف الحجاب على رأسها فلا يبين إلا وجهها الخالي من الأصباغ فإن عنفوان عمرها لم يمنعها أن تكشف عن لواعجها في الخوف من ألا تحصل على مقعد في الجامعة لتجيبها أخرى ربما سبقتها عمرياً في مضمار مرارات بعض تجارب التحديات الاجتماعية وما جدوى الشهادة إذا كانت لن تجر عليها إلا أن تقبع في البيت في انتظار وظيفة قد لا تأتي بعد عناء أربع سنوات. بينما أخرى كانت قريبة من الفئة العمرية لهاتين الأخريين وإن كانت هي الأخرى تتلفع بغطاء الوجه في حضرة النساء مع النساء تداخلت في الحديث قائلة و(الله بعد (العلة) اللي ما نقدر نخليها تتعدى حلوقنا إلا ويدكنا عرق الحياء) هي هالبنات (المزبرين) في البيوت ما حد يدري عنهن والعمر يمضي وما تدرين إلا وعلى قول القايل (فاتك قطار الزواج) ولا يقولون لك إلا غلاء المهور سبب عزوف الشباب ولكن لا أحد يقول العادات والتقاليد وخضيري وقبيلي ولا أحد يسمع رأي البنات.
كان هناك بوح أيضاً عن بعد المواعيد مع المختصين من الأطباء, عن ندرة الدواء في غير الصيدليات التجارية, عن استمرار (عطال) بعض الأجهزة الحيوية للفحص الطبي كآلة (المموجرام) للصدر أو الأشعة الصوتية بالأشهر, كان هناك حديث ذو شجون عن (الشغالات والسواويق) وكان هناك (تأفف وشكوى) متعددة الأنواع على الأجهزة الحكومية وعدم تعميم خدمات بعض قطاعاتها على النساء, (شكوى) من الأزواج والأبناء والإخوة والآباء عندما لا ينصف بعضهم القريبات أو لا يراعون الميثاق الغليظ الذي أخذه الله عليهم في حسن العشرة بين الرجال والنساء، بل كان هناك تذمر من نمطية علاقة النساء من النساء, وخصوصاً مديرات المدارس ومن في حكمهن عندما لا يصبح همهن إلا المحافظة على الكرسي وليس تمثيل مصالح الطالبات والمعلمات.
ليس هذا الكلام كلاماً متخيّلاً. وليس فيه حرف واحد محض اختلاق. وإذا كان ليس من عادتي في الكتابة أن أخوض في أحاديث المجالس فقد شعرتُ بواجب وبمتعة في استعادة هذا الحديث مع القراء لأنه ببساطة لم يكن بأي شكل من الأشكال يأخذ شكل (النميمة) الاجتماعية أو (الاستعراض) التنظيري كما يفعل عدد مما يُسمى بالمثقفات بقدر ما شعرت أنه يعبِّر عن نبض الشارع - إذا صحَّ التعبير - في ذلك المجال الملتبس الذي صارت تقيم فيه النساء ممن لم يعد حضورهن قصراً على المجال البيتي دون أن ينتزعن حضوراً معترفاً به في الفضاء العام يُسمع بكلامه المباح من يعنيه الأمر. ومن ذلك الكلام مطلب تمكين المرأة من الشراكة الاجتماعية.
لقد كنت طوال الحديث الذي اكتفيت من المشاركة فيه بعملية الإصغاء أشعرُ كأنني في هودج يوغل في صحراء لم تعبّد بعد ولم تعد صحراء. تذكّرتُ (نساء على أجنحة الحلم) في مذكّرات طفولة الباحثة الاجتماعية فاطمة مرنيسي عن المجتمع النسوي بالمغرب, تذكّرت مريم الحكايا للروائية اللبنانية علوية صبح, تذكّرتُ موقفاً مشابهاً في قصة لمحمد علوان لنساء كن يستشفين من الأمراض الاجتماعية برقية تبادل الحديث مع نساء أخريات. تذكّرت عدداً من الأعمال الأدبية والبحثية التي حاول فيها عدد من الكاتبات والباحثات وبعض من الكتاب إعادة الاعتبار (لكلام النساء) بنزع تلك النظرة الاستخفافية التي طالما أشيعت عنه وإعادة فحصه باعتباره تعبيراً عن المقنع من الأشواق المشروعة في التطبّع للمستقبل يخلو من التعالي بحكم النوع أو لا يتورع عن إقصاء النساء عن المجرى العام للحياة العامة باسم الخوف على النساء أو الخوف منهن.
إلا أنني في طريقي إلى العيادة عندما نادت الممرضة على اسمي لم أستطع إلا أن أسأل نفسي: هل كان سر البوح أننا كنا مجموعة من النساء المتلفعات بالسواد فأعطى الإحساس بأن الحديث حديث عابر بين غرباء يخلو من التبعية نوع من حرية الإفضاء أو أن الأمر كان عكس ذلك؛ فكان هناك نوع من المشاركة الوجدانية خلقته وحدة الهوية وتشابه الشجون وملل شهرزاد من كلام الليل بالتحول إلى كلام معلن في وضح النهار. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com