المسألة محسومة فيما يتعلق ببقاء الخير والشر، فالمكان لا يقبل أحدهما دون الآخر، ولابد من تواجدهما معاً لتكون الدنيا كما قدر لها أن تكون، ومسألة تعاقبهما على السيادة محسومة أيضاً، حتى يظهر كل أمر وأهله فتتضح قيمته وآثاره والغاية من وجوده. ولا يمكن تخيل دنيا بلا شر، يسودها الخير فقط، فلا تسمع فيها ولا ترى إلا كل خير، لأنها بهذا ستفقد أهم محفزات حركتها، ولن تكون المكان المثالي الذي يضم هذا التنوع الفريد في طبيعة نفوس الناس ورغباتها، ويحتوي هذا التباين والاختلاف في حركتهم قدراً من نوعاً وفقما تمليه عليه رغبات أنفسهم وغاياتها التي تتحكم في مفاهيمهم وقيمهم وما يرون فيه مصالحهم، ولن تكون الدنيا التي يمتحن الناس فيها ويثمن ثباتهم بتقاطع المصالح وكبر التنافس في ملذاتها مع اختلاف قدراتهم ونواياهم، وسيختفي من دنيانا الكثير، فلا تفاضل بين الناس ولا داعي للتشريعات وللقوانين، ولا حاجة لوجود المصلحين والناس كلهم مصلحون، وسيتفق الناس في غاياتهم وزهدهم وقناعاتهم، فتموت الطموحات ومحفزات الحركة لعمارة المكان، وستفقد هذا الشعور بلذة الخير وما يفيض به من شعور بالطمأنينة، لأننا لم نختبر غيره، وسيفقد العالم هذه الحياة الصاخبة التي تثور في كل شيء وتتغير في كل شيء ويبدلها بحياة رتيبة لا تحرك الرغبات ولا تحفز العقول لاختراع سبل تتغير وفق تغير الرغبات، فتفقد الحياة طعمها ومعناها. الدنيا هي هذه المحملة بكل الخير وشيء من الشر، ليكون بين الخير والشر هذا التصادم الذي يبقي الحياة في حراك دائم يبرز قيمة الأشياء ولذتها، ويضفي هذا المعنى العميق لماهية الحياة وغاياتها.. والله المستعان.