Al Jazirah NewsPaper Saturday  19/07/2008 G Issue 13078
السبت 16 رجب 1429   العدد  13078

دفق قلم
كان ليلاً طويلاً
عبدالرحمن بن صالح العشماوي

 

إنما تكتسب الأزمنة والأمكنة موقعها من نفس الإنسان بما يكون فيها من فرح أو حزن، أو غضب أو رضا، أو سعادة أو شقاء، للمكان إيقاعه في نفس الإنسان، وللزمان كذلك إيقاعه الخاص.

مازلت كلما رأيت وجه الشمس الأحمر وهي تقف على شرفة الغروب أتذكر أمي الحبيبة - رحمها الله - وهي تردد أبياتاً لي في وصف هذا المنظر البديع، (مالها محمرَّة الوجه على جسر الغروبِ، مالها، ترتعش الأضواء منها في شحوبِ، كجليس اللهب الأحمر في الليل الرّهيبِ، أنتِ يا شمسُ وقد أشرقت فينا من قريبِ، بدِّلي الحمرة بالإشراق عودي لا تغيبي).

لقد أصبح هذا الوقت لوحةً خاصةً بي، تعرض عليَّ يوميَّاً ذلك الوجه الحبيب، وتسمعني أصداء ذلك الصوت الغالي.

المكان لا يستأثر باهتمامنا إلا لما له من أثر في نفوسنا، وإيقاعٍ شعوري في قلوبنا، وكذلك الزَّمان.

حينما أعود إلى قريتي ومسقط رأسي (عَراء) في بني ظبيان بمنطقة الباحة بعد طول غياب أشعر أن جبالها وسفوحها، وأوديتها وأشجارها، وترابها، وبيوتها القديمة تتحرك أمامي صوراً حيةً مرئيَّةً مسموعةً من ماضٍ مشحون بالذكريات.

وحينما يُلقي الليل بأستاره السود، ويتمطَّى كائناً عجيباً مظلماً ساكناً موحياً، تتحوَّل ظلماؤه إلى شاشة كبيرة تعرض على ذهني عشرات الصور المرتبطة بأجمل الذكريات وأصفاها، وبأشدها على النفس وأشقاها، عشرات الصور التي تنقل الإنسان من واقعه إلى عوالم ماضيةٍ لا يستطيع أن ينساها مهما تعاقبت الأيام.

الزَّمن يرتبط بنفوس البشر، وقلوبهم وذكرياتهم، والمكان يحرِّك الأشجان، ويعيد إلى حاضرِ الذهن صُوَرَ ما كان.

كنت في ليلةٍ قريبةٍ مضت أتصفح ديواني (صراع مع النفس)، وما كدت أرحل عبر صفحاته الأولى حتى خرجت من واقعي، ودخلت من بوَّابة قصائده إلى ذكريات الطفولة والصِّبا، ذكريات القريةِ التي لا يملك القلب أمامها إلا الاستسلام، والانسياق وراء صورها الموحية التي تكون أحياناً أشدَّ حضوراً في الذهن من الصور الحاضرة التي نراها ونسمعها.

كان شريط الذكريات مليئاً بالصور المثيرة للشجون، حينما قرأت:

غرِّدي فوق الروابي أنشدي

إنما أنت شفاء الكَمدَ

خرجت من واقعي إلى صورة حيةٍ رأيت فيها نفسي وأنا في أواخر المرحلة الثانوية على سفح من سفوح حمى ظبيان أرى تلك العصفورة الجميلة تغرِّد على غصن شجرة اللوز الخضراء، فكان التفاعل وكانت القصيدة التي كان البيت المذكور آنفاً مطلعها، ثم كان الرجوع إلى المنزل والوقوف أمام أمي الحبيبة وإلقاء الأبيات الجديدة على مسامعها - رحمها الله-.

ما هذا الحضور العجيب لذلك الماضي البعيد القريب؟

هنا تطاول الليل، وبدأ الشجى يتسلل إلى النفس، وبدأ الإحساس ببعد الوالدة الغالية ينقش بريشة الحزن حروف الألم على قلبي، وهنا لجأت إلى ربي داعياً ذاكراً، فعاد إلى النفس هدؤها، وعادت إلى الليل قامته المعروفة.

إشارة:

ياليلُ كن بحراً بلا طرفٍ

فزوارقي الآياتُ والسُّورُ

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5886 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد