هذا الطرح المترهل سذاجة عندما يدعو إلى الانفتاح والتعدد والديمقراطية، والتسامح، فهو يروم ذلك وفق نمط خاص به، وعلى ضوء مواصفاته ومقاييسه، على نحو يحيل هذه الدعوة إلى مفردة شعاراتية جوفاء؛ إنه في حقيقته الغائرة في أعماقه، والتي تشده دوماً إلى خيوطها،
إقصائي متعصب من الطراز الأول، دائماً يستشعر علاقة صراعية مع مخالفيه، وإن زعم غير ذلك، حتى وإن استمات للتظاهر بعكسه، فثمة وحشية تسكنه، جبلة فيه، مكون من مكوناته، إنها أحد موجهاته المتحكمة فيه، والتي تجعله يدير خلافاته بعقلية رعاة البقر في ولاية تكساس!!.رغم أن الداعية العلماني لا يزال أسيراً للتعصب وللفكر الإقصائي، الصريح في إقصائيته، والمتناهي في نفيه، إلا أنه يحاول أن يرفع شعارات تكسبه ضرباً من القابلية للاستقطاب الإمعي المتسطح، يخيل إليك أحياناً من كثرة دعوته إلى التسامح، والإلحاح على تقبل المخالف، أنه من أكثر الفعاليات الثقافية تجسيداً للتسامح مع المغاير الفكري، مع أن الحقيقة أن التسامح كمعنى هو المفردة الأكثر ترشيحاً للسرقة من قِبله متى تسنى له ذلك، فثمة لصوصية ولكن من نوع آخر!؛ ثمة عملية سطو، يراد تنفيذها، وعلى نحو عالٍ من السرية!، هذه الدعوات الشعاراتية الصاخبة مغيبة في منحاها العملي فهي ضامرة تفتقر حتى لأدنى درجات الواقعية التي توفر لها ضرباً من التموقع الفعلي!، هذه الشعارات الجوفاء ليست إلا من قبيل العبث، فليس لها امتداد عملي يأخذ حيزه على قسمات الواقع!.
الطرح العلماني عبر هذه الشعارات يقفز على الحقيقة، ويناوئ المنطق، ويغرق في الخيال. الدعوة إلى التسامح وقبول الآخر تذوب تماماً عندما تختلف مع هذا التيار في مفردة مّا. فمجرد المخالفة تضع المخالف في دائرة الاتهام ومن ثم تستنفر الأذهان لمناوءته، فيسلق بألسنة حداد وتشن عليه حروب شعواء.
هذا الخطاب يتحدث ويطيل الثرثرة عن التسامح والتعددية والحرية وسعة الأفق لكن عندما تتبنى فكرة تخالفه أو تدعو إلى نقيض ما يتبناه فهنا سرعان ما ينكص على عقبيه ويتجلى النهم العدواني في أحمق صوره فيندفع تحت وطأة هذا الشعور إلى إقصاء المغاير وتشبيحه (أي جعله شبحاً) وشيطنته، (أي جعله شيطاناً) ومن ثم محاولة طرده عن رحمة اللهّ!!، ثمة محاكم تفتيش قروسطية يجري إقامتها عبر هذا الطرح التنظيري الذي يعشق وبنهم مسعور كيل المفردات والألفاظ الإقصائية وإلقاء التهم جزافاً بلا مستند ولا دليلّ!!..إن المجتمعات بكافة أطيافها، وعلى مستوى العالم بأكمله تقززت من العلمانية، وتعاطت معها كعنصر نتن ليس ثمة مبرر لقيامه، بل المعطيات قاطبة تتجه صوب رفضه والنفور من وجهه الكالح؛ وفي البلاد الإسلامية على وجه الخصوص، ووجهت العلمانية بتمنع جماهيري، وتأبّ فطري يقاوم ترهاتها الموسومة زوراً بأنها علم!، وأقرب مثال على ذلك التمنع ما يحصل في دولة مثل تركيا. لقد بدأت الأوبة إلى الدين -أي دين حتى ولو كان محرفاً- والإيمان بقوة غيبية، وعظمة ما ورائية، بدأت تكتسح شعوب العالم فالبروتستانتية بدأت ملامحها تتشكل في أمريكا، والكاثوليكية ظهرت إلى النور في أمريكا الجنوبية، وفي الصين أخذت الكنفوشيوسية تتجلى شيئاً فشيئاً معالمها، وفي الهند جاءت الهندوسية لتأخذ امتدادها الشعبي، وفي اليابان استرجعت البوذية رصيدها الجماهيري الواسع المدى، هذه العودة الجادة إلى الدين فيه دلالة جلية على أن التدين والإيمان بالما وراء طبع جبلي في الإنسان يتعذر عليه العيش بدونه.
تجليات الأوبة إلى الدين والانتفاضة الثائرة على العلمانية نجدها عند مختلف الشرائح، من أبرزها اليهود والنصارى والصينيون والهنود، فمن تجليات العودة اليهودية إلى الدين، أولاً: إنشاء الأحزاب الدينية وفسح المجال أمامها لتعمل في العلن حتى بات لها دورها الحيوي في وصول أحد الحزبين للحكم.
ثانياً: تنظيم الشؤون الدينية في إسرائيل حيث خصصت الدولة وزارة للأديان لخدمة القضايا الدينية ودشنت قوانين دينية لتنظيم الأعياد والعبادات وفي الجيش الإسرائيلي جرى وضع حاخامية عسكرية ذات صلاحيات دينية وأولت المحاكم المدنية عناية قصوى بالأحكام المنبثقة عن المحاكم الدينية في الأحوال الشخصية ثالثاً: أقامت الدولة منشآت كمدارس دينية رسمية عناية منها بالتعليم الديني إضافة إلى الأعياد الدينية التي أصبحت تقام بشكل علني وداخل نطاق جيش الدفاع الإسرائيلي بعد أن كانت محصورة في مجال ضيق لا يتجاوز شريحة ضئيلة من اليهود المتدينين. أيضاً مظاهر الثورة على العلمانية نجدها لدى الهندوس، وتتمثل في إقامة المعابد الهندوسية وتشكيل الأحزاب الدينية المتطرفة والاحتفال بالأعياد والأيام المقدسة ويعد مهرجان (الإبريق الأكبر) الذي يقام كل اثني عشر عاماً من أكثر المهرجانات قداسة عند الهندوس، أما مظاهر التمرد على العلمانية لدى الصينيين فنراها متجسدة في تزايد المد الكنفوشيوسي وتصاعد نموه أيضاً ثمة تجليات متعددة تكشف عن التأبي على العلمانية والتمنع على مبادئها والأوبة إلى الدين والتطبيق الحرفي لأدبياته عند النصارى يتمثل هذا في أمور كثيرة من أبرزها: التوسع في طبع الأناجيل ونشرها وإنشاء الجامعات الدينية المتخصصة ومنها بروز الخطاب ذي الطابع الديني في الحملات الانتخابية فحينما ألقى جورج بوش خطابه الانتخابي في مدينة هيوستن الأمريكية عام 1992م اعتنى ببعد محوري يمثل برنامجه العريض للسنوات الأربع في حال ما إذا جرى انتخابه. هذا البعد الجوهري يتمثل في الدعوة إلى العناية بالقيم الأخلاقية وتقوية البعد العقائدي التي تضمن بقاء أمريكا كقطب أحادي مسيطر في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. هذا الخطاب الديني نراه يحضر على أعلى المستويات الرسمية فالرئيس (ريغان) كان ينطلق في مجمل سلوكه السياسي العام وفقاً لتعاليم الإنجيل حيث يقول: (إن الاتحاد السوفيتي امبراطورية الشر وإن تعاليم الإنجيل وأقوال المسيح تتطلب منا أن نقاوم الشر بكل ما أوتينا من قوة) انظر (العالمية والعولمة) السيد ياسين ص 284 وكذلك الرئيس كارتربدا كمبشر بالمسيحية يدعو إليها من خلال مركز كارتر الذي أنشأه هو وزوجته (روزالين) في مدينة أطلنطا ويعتقد كارتر أن عمله كمنصر أرقى من عمله كسياسي فالتنصير برأيه هو الذي يليق به وبقدراته، وخلاصة القول: فإن الواقع الآن ينطق بانهيار المد العلماني، وخفوت صوته، وتقلص مساحة تشكله، الواقع ينطق أيضاً بأن ثمة انتفاضة جماهيرية، ثارت على العلمانية، أفواج بشرية هائلة هربت من جحيمها، الداعية العلماني بطرحه الصعاليكي هو الآخر أفلس، فخنس، واندحر إلى جحره، كسيراً حسيراً مطأطئاً رأسه، يحملق بذهول، وينظر بحنق محموم إلى المد الإسلامي، الذي بدا هادراً، شامخاً بأنفه، بازا سواه، يرنو إلى ذاته بزهو بالغ، ويمشي بكبرياء مشية الخيلاء، مشيعاً بأمواج بشرية تتدفق من كل صوب لتروي ظمأها من نبعه، ومن ثم تسعى جاهدة لتجسيد مبادئه، وتتفانى في العمل على موقعة مثاله.
Abdalla_2015@hotmail.com