للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد في أي مجتمع سمات وخصائص وأدبيات، ولهم أدواتهم وأساليبهم التي تعارفوا عليها بينهم في التعبير عن مشاعر الامتنان والرضا، والموافقة والمجاملة، وغيرها مما يهدف للترابط والتآخي، وتعزيز الأخوة والمحبة، والتقدير والاحترام، وإظهار الودّ والإعجاب، والتعبير عن التوافق والاتفاق، أو التسليم والانقياد.
وهناك العديد من العبارات الموروثة في التعبير عن المجاملة بين الأفراد مثل (أبشر) و(سم طال عمرك) و(الرأي ما ترى) و(أنت أبخص) و(الله لا يخلينا منك) و(أنت فصل وحنا نلبس) وغيرها من العبارات ذات الدلالات والمعاني المختلفة، فمنها ما يدل على تقدير المخاطب واحترامه، أو على الخنوع له والخضوع والتذلل، ومن دلائلها، السلبية والعجز، الخوف والهيبة من المخاطب، كما تدل على عدم المبالاة والاهتمام، ومن دلائلها، الجهل وعدم القدرة على المشاركة بالرأي، والاستسلام وعدم الممانعة، على الرغم من عدم قناعة المستسلم الموافق بحيثيات الموقف الذي انكفأ فيه على ذاته، وسلم واستسلم للواقف أمامه مرددا بكل هدوء وانكسار تلك العبارات وأخواتها.
في ضوء ماسبق، لابد من التنويه إلى أنه لا ضير من استخدام تلك العبارات في المواقف المنطقية الصحيحة السليمة الصائبة، وأنها في مثل هذه المواقف مقبولة معقولة، وتدل على الاستحسان والرضا، أو التأييد والموافقة على الحيثيات بأدب واحترام، وبالتالي لا يلام قائلها، ولا يستنكر عليه قولها وترديدها.
لكن إذا قيلت هذه العبارات أمام أصحاب المواقف غير المنطقية أو المستبدة أو الخاطئة أو الظالمة أو المتشنجة، فذاك منتهى الخطورة والخذلان والسلبية، وهذا ما يفضي إلى العواقب الوخيمة والعدوان والظلم، والتخلي عن قيمة الذات وتقديرها واحترامها، كما تفضي إلى التعدي على الحقوق وضياعها، ولهذا يلام قائلها، ويستنكر عليه، ويوصف بأنه سلبي خانع مستسلم.
ومن الأمثلة على هذا، ما حصل لأحد المراجعين، حيث استكمل أوراقه وذهب مبكرا إلى إحدى الإدارات الحكومية، خشية الزحام والمزاحمة، وقف أمام الموظف المعني بكل احترام وتقدير، عرض أوراقه عليه، قال له الموظف: انتظر في الصالة، دون أن يبدي له أي مسوغ للانتظار، قال المراجع: (سم طال عمرك) اتجه إلى الصالة منتظرا الفرج، طال انتظاره إلى حوالي الساعة، ولم يسأل عنه أحد، مر به أحد المسئولين في الإدارة، سأله: لماذا أنت هنا؟، بيَّن له المراجع ما حصل، فوجهه المسئول إلى أحد الموظفين في مكتب آخر، قال المراجع: (سم طال عمرك)، حمل أوراقه متجها لذاك الموظف، عرض أوراقه عليه، شرح عليها الموظف بالموافقة، وانتهى الأمر، لكن بعد ماذا؟ بعد انتظار وقلق وتعطيل للمصالح قارب الساعة، ويتبين من هذا أن المراجع يتحمل موقفه المستسلم، فهو لم يناقش الموظف عن حيثيات الانتظار، ولم يتجه إلى المسئول الأول في الإدارة ليعلمه بما حصل من ذاك الموظف الذي لا يدرك أهمية الوقت وأمانة العمل، هذه إحدى ثمار (سم طال عمرك) وأخواتها المستسلمة الخانعة، فمنها تتراكم الأخطاء، ويترسخ الفشل.
ومما يؤسف له أن هذه العبارات تتردد كثيراً من المسئول الأدنى أمام المسئول الأعلى منه، وهي تتدثر بمسوغ المجاملة والمهادنة والمسايرة، أو عدم الرغبة في التصادم مع المسئول أو إغضابه، وتتأكد هذه العبارات وتبدو جلية مع شيء من التذلل والخنوع والخضوع إن كان في الموقف مصلحة أو حاجة، وتزداد صور الخنوع هذه خطورة عندما تغلب في سلوكات المستشارين، ومن في حكمهم ممن يطلب رأيه، أو يوكل إليه إنجاز مهمة.
يقول بارني: (أولئك الذين يركعون للناس، يخشى أن يعدوا مقعدين)