من الواضح أن الجمال لا يتحقق إلا بعد تحقق الإتقان. ومن أهم مقومات الإتقان الصبر. والصبر أيضاً قيمة من القيم الأساسية التي يدعو لها الإسلام. وقد ورد (الصبر) بمشتقاته أكثر من مائة مرة في القرآن الكريم وورد بصورة الأمر المفرد (اصبر) عشرين مرة، وبصورة الأمر للجماعة (اصبروا) سبع مرات. وللصبر ارتباط وثيق بالزمن لأن الزمن هو الذي يوضح مدى الصبر، فالصبر لساعة واحدة ليس كالصبر ليوم أو لشهر أو لعدة سنوات.
ومن هنا يتضح أن ما تحقق من القيم الجمالية في الفن الإسلامي قديمة وحديثة يعتمد على قيمة الزمن أو الوقت، وإدراك الفنان المسلم أنه مسؤول عن هذا الوقت. وجعله الصبر من أساسيات الإتقان من خلال الممارسة الدائمة، وبهذه العلاقة المنطقية ندرك سر الجمال في الأعمال الفنية الإسلامية القديمة منها والحديثة.
ولهذا فإن المشاهد للأعمال الفنية للفنان المسلم لم يكن ليتحقق لها هذا الجمال لولا الفهم الخاص للفنان لعنصر الزمن، ولولا صبره لمعالجة هذه الحروف والكلمات والزخارف وتداخلها الدقيق..
وكل ما سبق ينطبق على كل الفنون التي مارسها الفنانون المسلمون في السابق، والتي يمارسونها اليوم. ولنا أن نتصور الوقت أو الزمن الذي أمضاه الفنان المسلم في إبداع هذا الإناء المتميز (شكل1) ونقش هذه الزخارف النباتية والحيواني ، الطيور، والتجريدية الممزوجة بالخط العربي.
وتنطبق أيضاً على هذه المخطوطة، وما صاحبها من منظر طبيعي يعج بالحركة التي تظهر الصيادون بأقواسهم وسهامهم التي يطلقونها من على ظهور خيولهم.
ويتضح الإتقان مع الدقة في إنجاز الفنان المسلم وابتداعه لمثل هذه الأدوات المختلفة والتي أبدع أجزاءها الدقيقة بمهارة تامة، وابتكر أشكالها ألتي جمعت بين الغرضين أو حققت الهدفين المنشودين من مثل هذا العمل وهما المنفعة Utility أو القيم النفعية، إضافة إلى القيم الجمالية Aesthetic Values
فنون الخط.. الأكثر شهرة
أما الجانب الابرز في الفنون الإسلامية فهو فن الخط العربي الذي جمع بين هذين الهدفين. وهو أشرف الفنون الإسلامية وأرقاها. ولهذا فقد عمد الفنانون منذ القدم على دراسته وتجويده.وهو الفن الوحيد الذي تعلمته ومارسته كل قطاعات المجتمع الإسلامي، ويشمل ذلك الرجال والنساء. فممارسة الخلفاء والسلاطين والعلماء والشيوخ، والصحابيات والعالمات.
والذي اشتهر فيه الكثير من العلماء الخطاطين منهم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - صاحب الصحيح، والإمام محمد بن عبدالله البوصيري، والشيخ الجوهري صاحب كتاب الصَّحَاح. ومن الخلفاء الخلفية المستنصر بالله، والخلفية المسترشد بالله، والسلطان سليمان خان. أما أشهر الخطاطات المسلمات فمنهن:حفصة - أم المؤمنين، الشفاء بنت عبدالله - وهي معلمة حفصة، العالمة خديجة بن محمد - أبو الرجاء الجُرجاني، فاطمة بنت الحسن بن علي، وكانت من أنبغ تلاميذ الخطاط المشهور ابن البواب. وخلال عصور الضعف والتفكك للدولة الإسلامية اضمحل فن الخط وقلَّ الخطاطون الرجال، وانعدمن الخطاطات.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فن الخط العربي قد ازدهر في عصرنا الحديث، ولا يزال يمارس اليوم - رغم سطوة التقانة. وسوف أكتفي بالإشارة هنا إلى بعض الخطاطات المعاصرات من أمثال: الخطاطة الفنانة فاطمة سعيد، الخطاطة الفنانة فاطمة محمد عبدالرحيم، الخطاطة الفنانة نرجس نورالدين، الخطاطة الفنانة ماجدة سليم محمد، وقد أسهمن بأعمال متميزة في الدورة الرابعة في المعرض الدولي لفن الخط العربي، والذي أقيم بدولة الإمارات العربية المتحدة في العام الماضي.
ومن أمثلة الأعمال الفنية الممثلة لكل القيم الإسلامية العمل الذي أبدعه الفنان المصري أحمد مصطفى وفيه يمزج بين نوعين من الخطوط التقليدية وهما الكوفي والثلث، فهناك جزء من آية من سورة (يس) وهو تنزيل العزيز الرحيم مكتوب في الخلفية، وكتبت عليه آيات أخرى من سورة (يس) نفسها. وقد استخدم ترديدات حروف أخرى لتقوم مقام الزخرفة وعالج العلاقات اللونية في الصورة معالجات دقيقة وناجحة جعلت هذه اللوحة تحقق أغلى ثمن لكل اللوحات التي ساهمت في المزاد الأول لمؤسسة كريستي الإنجليزية بدبي في العام الماضي رغم اشتراك عدد من الفنانين العالميين من الشرق والغرب، فقد بيعت بما يعادل مليوناً ومائة وخمسين ريالاً سعودياً، وفي هذا العام أيضا برزت لوحة بالخط العربي في المزاد الثاني للمؤسسة السابقة وهي للفنان الخطاط الإيراني محمد احسائي Mohammad Ehsiai فقد جعل حروف اللغة العربية تتشابك وتتداخل في ترابط قوي. وعلى الرغم من أن ما باللوحة لا يمكن قراءته إلا إن القيم الجمالية في التكوين لا تخفي على أحد. ويمكن للمشاهد أن يتصور الوقت الذي أمضاه الفنان محمد في إبداع هذا العمل. أما الإتقان فهو واضح، ويؤكد تجويد الفنان للخط ومهارته فيه، فالحروف منسابة انسياباً منظما، وتكون عملا جماليا متميزاً.
الخاتمة
وفي الختام أؤكد أن الفن الإسلامي قد تميز بقيم جمالية عالية منذ عدة قرون، وقد حافظ كثير من الفنانين المعاصرين على هذه القيم الجمالية، ليس في فنون الخط العربي فقط، بل في سائر مجالات الفن التشكيلي. وما ذلك إلا لإتقان الفنانين المسلمين لأعمالهم، وتجويدهم لما يقدمون، والحرص على العمل المتواصل والتدريب، دون الاكتراث لطول الوقت الذي يقضونه في ذلك لأن ذلك الوقت استثمار حقيقي، ومراعاة للتوجيهات الإسلامية. فالصبر الذي يمارسونه خلال تنفيذ تلك الأعمال، والسعي لتحقيق الإتقان كلها أمور يأمل الفنان المسلم أن يؤجر عليها منه تعالى.
وفي الختام أكرر شكري لمنظمي هذا اللقاء الجميل، وأشكركم على حسن متابعتكم وعلى صبركم الذي نافستم به صبر الفنانين المسلمين.
***
«موجز من محاضرة للدكتور محمد بن حسين الضويحي- أستاذ مشارك - كلية التربية» - قسم التربية الفنية - جامعة الملك سعود -وكيل كلية الدراسات التطبيقية وخدمة المجتمع