أحد الفضلاء عَرَضَت له شكوك، وتخلَّص منها بإيمان صادق حسب رسالته إليَّ، ولكنه أراد أن يطرح ماعرض له من شكوك لمعرفة سبب الخلاص منها، وقد أجبته برسالة خاصة، ولكن رأيت خطورة الموضوع، وأنه مما ينبغي الاحتساب بإتحاف القراء به؛ لعظيم منفعته، وهذا هو ما طرحه:
إذا كان لكل حادث مُحدِث، ولكل سبب مُسَبِّب، وأن الله خلقنا فمن خلق الله، وكيف وُجِد، ومن أين، ولماذا كان هو ولم يكن إله آخر؟
قال أبو عبدالرحمن ليس هذا الإشكال جديداً، وقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم من أحد الصحابة رضي الله عنهم خاف من وزر الوسوسة؛ فأخبره صلى الله عليه وسلم أن هذا التهيُّب محض الإيمان، وأن ذكر الله يطرد الوسواس، ولكن السائل يريد جواباً فكريّاً، وجواب ذلك أن صيغة السؤال نفسها فاسدة فكريّاً، وما فسدت مقدماته فسدت نتائجه وبيان ذلك أنه يوجد فرق بين الأسباب والسبب النهائي الواحد الذي يسمونه العلة الكافية؛ فالاكتفاء بقولك ههنا (لكل سبب مسبب) قاصر، بل هناك سبب نهائي لا مُسَبِّب له ينقطع به التسلسل كما سيأتي برهانه إن شاء الله ثم إن القضية التي طرحتموها، وهي (لكل حادث محدث) إنما هي عن المُحدَثَات؛ فقولكم بعد ذلك (فمن خلق الله) خَلط أوقعكم في المغالطة والشك؛ لأن الله سبحانه غير مُحدَث؛ فكيف تُدخلونه في مقدمة (لكل حادث محدث).. وبعد هذا فالإيمان بأن الله قائم بنفسه غني حميد خالق غير مخلوق ليس سلوكاً فكريّاً حرّاً، بل هو سلوك فكري حتمي ضروري لا خيار للعقل فيه؛ لأن ضرورات العقل أوجبت ذلك، ولا يستطيع العقل أن يتصوَّر غيره، وما أحال العقل تصوَّره فلا وجود له في الواقع كما سيأتي برهانه أيضا ومن المغالطة في سؤالكم ولم تنتبهوا لها قولكم عن الله سبحانه (كيف وُجِد، ومن أين، ولماذا كان هو ولم يكن إله آخر أي غيره) وهذه المغالطة من وجوه:
أوَّلها: أن العقل مخلوق أعطاه الله قدراً من المعرفة يتعامل بها مع واقعه وهذا لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الإنسان يولد لا يعلم شيئاً إلا الغريزة واللذة والألم التي فطره الله عليها ثم يبدأ وعيه العقلي بالتدريج، وتزداد معارفه أحكامه العقلية بالتدريج من خلال خبرته الحسيَّة المتدرِّجة ويعتريه السهو والخطأ والحيرة، ولا يتم له معرفة صحيحة إلا بمراجعات مضنية كمراجعات الحاسب في جمع الأعداد الكثيرة، وضربها، وطرحها، وقسمتها وهو بعد هذا لا يستقلُّ بعقله الفردي، بل يستعين بالله ثم بالعقل الإنساني المشترك، ويزداد علماً وزكانة بمقدار ما اختزنته ذاكرته وتصوره من معرفة هُويّات ما عرفه، ومعرفة العلاقات بين الهُوِيّات، ومعرفة الفوارق بينها، وترتيب معارفه ترتيباً رياضيّاً ببناء البديهة على ما قبلها من بديهيات.. وهكذا الحاسب لا يعلم أن 17\19=323 إلا بعد علمك بالتجربة الحسيَّة أو تحفيظك جدول الضرب تلقيناً بأن معنى 7\9 يعني أن تعدَّ سبع حُصَّيات تسع مرات، أو تعد تسع حصيات سبع مرات؛ فتجد في عُبِّك 63 حصية وهكذا تعلم أن 9\1=9 لأنك عددت تسع حُصيات مرة واحدة فقط؛ إذن حصل لك 63 من9\7 وحصل لك 9 من 9\1 من إلا أن هذا الواحد كان عشرة في تركيب 19 وكان عندك 63، وقد فرغت من جعل 3 أوَّل عدد آحادي من ضربك 9\7 إذن بقي عندك 60 من 63؛ فتجعل الستين ستة فقط؛ لأنها في خانة العشرات، وضربك 9\1=9 في خانة العشرات فتجمع بالتجربة الحسية 9+6؛ فتكون 15 في خانة العشرات والمئات، وعندك في خانة الآحاد 3؛ فيكون الحاصل 153، ويبقى عندك من 19 واحد في خانة العشرات تعدُّ به 17مرة واحدة فلا يحصل لك بالتجربة الحسية إلا 17، ولكن القانون الرياضي التجريبي قنَّن لك أن السبعة في خانة العشرات، والواحد في خانة المئات فصارت 17+170؛ فتجمع 153+170، فتكون النتيجة 323؛ لأنك جَرَّبت بالحس أن الصفر لا يعني شيئاً وحده، فصح لك أن 3+0=3 في خانة الآحاد وصح لك بالحس أن 7+5=12؛ فتضع (2) في خانة العشرات، وتنقل الواحد إلى خانة المئات فيكون معك100، ومعك 100 من خانة 153، ومعك 100 من خانة 170؛ فصار الجميع بعدِّ الأصابع 3.. أي 300، والذي عندك في خانة العشرات (2)، وعندك في خانة الآحاد 3؛ فصارت النتيجة 323 تستطيع إرجاعها للتجربة الحسية فتلتقط في عُبّك (17) حصاة تعدها (19) مرة، أو تأخذ (19)حصاة تعدها (17) مرة، فتعد الحاصل بأصبعك فلا يخرج عن 323 .. وقد يعتريك الخطأ في الضرب؛ فتعيد المراجعة أكثر من مرة، وتقسم 323 ل 17 أو 323 ل19؛ فتكون النتيجة للمقسوم 323.. وبإيجاز فقوانين الحساب أغنتك عما تعجز عنه بِعَدِّ بالأصابع؛ لأنها قائمة على قوانين حسية كقيام براهين العقل على وقائع حسية وفطرة من الخالق سبحانه.. وهكذا العقل البشري لا يجوز إسقاط شيء من بديهياته كأعداد الحساب، ولا يجوز الإخلال بقانونه الرياضي التسلسلي.
وبعد هذا كله فالعقل يعتريه كلال وذهول وضياع ذاكرة وغياب تصوُّر، ومنذ سبعين عاماً تقريباً في الأعم الأغلب يضعف إدراك العقل إلى أن يصل الإنسان إلى مرحلة أنه لا يعلم من بعد علمٍ شيئاً وكل معارف العقل - وقت بقاء القُوى - تتدرج بالتربية التعليمية وهذا الاستدلال الذي طرحه السائل مستشكلاً ليس هو من البراهين العلمية (وأعني بالبرهان العلمي ما قام على فطرة العقل وخبرة البشر ومحال أن يعارضه برهان علمي آخر) التي يحفل بها القرآن الكريم في براهينه العلمية المبسَّطة التي يدركها العامي والعالِم؛ وإنما هذا من آثار مقدِّمات المنطق الأرسطي وقد قلت كثيراً إن أرسطو لم يدع في منطقه ألبتة أنه عصمة للذهن البشري من الخطإ بإطلاق؛ وإنما ادَّعى ذلك عليه الجمهور الذين غلطوا عليه ممن ناصر منطقه كالإمام ابن حزم وابن سينا وابن رشد والغزَّالي.. إلخ، وهكذا من عارض منطقه كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه نقض المنطق، ومن الغربيين بيكون في الأرغانون الجديد؛ وإنما أراد أرسطو عصمة الذهن البشري من أغاليطَ تاريخيةٍ راهنة في عهده ولَّدها السفهاء من السوفسطائيين بمقدِّمات مُغالِطة تُنتج نتائج باطلة؛ فعارض هذه المقدِّماتِ أنفسها بتقعيدٍ للمقدِّمات المغالِطة، والمقدِّمات غير المنتِجَة، والمقدِّمات الصحيحة وضمَّن كتابه أشياء تُفيد في نظرية المعرفة وقلتُ أيضا كثيراً إن الفلسفة الصحيحة العامة هي نظرية المعرفة البشرية وآدابها المعروفة بآداب البحث والمناظرة وترتيب طُرُق الجَدَل، وماعدا ذلك فهو فلسفات خاصة لعلوم خاصة، ولكل علم فلسفته الخاصة ومهمة نظرية المعرفة إحصاء مصادرها، وتشريح عمليَّات الإدراك، وبيان أنواع المعرفة من يقين ورجحان واحتمال ووهم وخطإ، ومعرفةٌ بأشياء من الشيء، أو معرفةُ وجهٍ منه، ومعرفة بالحس البسيط، ومعرفة بالحسِّ المركَّب التجربة، ومعرفة بالوصف، ومعرفة للموجود بآثاره من غير قُدرة على تكييفه ومقدار حجمه وكل ذلك معرفة إثبات شيء، أو نفي له، أو احتمالٍ ارتفع مقتضيه والمانعُ منه، فتحتَّم التوقُّفُ في أحد طرفي النفي والإثبات والإيمان بالإمكان المجرَّد وتنتج نظرية المعرفة في كل جزئياتها من خلال نوعيَّتها حدود المعرفة البشرية؛ لأن العقل الإنساني مخلوق لا قِوام له إلا بالتدرج في التربية وقُوى العقل كثيرة منها مصاحبة الحس الظاهر والباطن فيما يظهره من الإدراك، ومنها رَسمُ صورة المُدرَكِ في التصور، ومنها اختزان كل التصوُّراتِ في الذاكرة، ومنها دقة التمييز بين هُوِيَّات الأشياءِ المدرَكة، ومنها دقة الفهم والتمييز لأحكام الأشياء المتصوَّرة بمعرفة العلاقات بين الهُوِيّات، ومعرفة الفوارق بينها وهذا هو الذكاء والَّلمَّاحية التي يُنعِمُ الله بها على بعض البشر، وتحصل لبعضهم بالتدريب على قراءة العلوم الدقيقة الصعبة ولو تأخر الفهم وقلَّ؛ فإن الموهبة تنشط على المدى، وتتَّسِعُ تدريجياً ومن حُرم هاتين النعمتين فهو الذي تُسَمِّيه العامة عُومَة يُنظِّم معارفه ووساوسه كيفما يحلو لجهله بلا أصول فكرية تهديه، وهو الذي يخلط ويملط على التشبيه بمن يخلطون الطين ويدوسونه ويكثِّرون ماءه حتى يكون خفيفاً يواسون به اعوجاج البناء في السطوح، ويسدُّون ثُلمه، ويكون بحول الله مانعاً من وَكف الماء من خلال السقف وما تُطَمَّ به الغُرف من الأثل والجريد وشبه ذلك؛ فالعومة يخلط الحق بالباطل، ويملطه؛ ليقنع ذهنه غير المدرَّب على استواء ما خلطه مع التنافر بين الحق والباطل.
والبراهين العلمية لا تفتقر أبداً إلى المقدِّمات الأرسطية وإن كانت صحيحة، ولكنها قد تصوغ البرهان بمقدِّمات ونتيجة لتيسير فهمه وتثبيته في الذهن.
وأول ما يقوم البرهان بهداية الله الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى؛ بما فطر عليه العقل من مبادئ سابقة للخبرة الحسية والمبدأ الجامع الأولي لتلك المبادئ هو قانون الهُوِية؛ فلا يقوى العقل بعد الخبرة الحسية على تصوُّر هُويَّة ناقصةٍ عمَّا تصوره من هُوِيَّة، ولا يقوى على دمج هُوُيَّتين في هُوُيِّة واحدة؛ لما عنده من فوارق تمنع من الدمج، وعلاقات لاتُسوغ الدمج ثم اشتقَّ العقل من هذا المبدإ قانونين فطريَّين ضروريَّين؛ أولهما سبب وجود الهويات وكل الهُوُيَّات في تصوُّره تكييفاً وتقديراً حادثة؛ فكان السبب ضرورة تُلِحُّ على العقل في ابتغاء السبب ثم تكوَّن للعقل من فطرته وخبرته انقطاع الأسباب بسبب واحد هو الأول ولا بداية له كما سيأتي برهان ذلك، وثانيهما قانون إحالة اجتماع نقيضين أو ارتفاعهما واجتماع ضدَّين مع إمكان ارتفاعهما معاً داخل في معنى النقيضين.
قال أبو عبدالرحمن ولعلها تُسعف مناسبةٌ بتحليل براهين إلى أبسط جزئيات تكوينها؛ لِيُعلَمَ أن العقل رياضيُّ التفكير.
وعلامة إذعان العقل للحق وإن عاند اللسان أن تنقطع حجته في الاعتراض إلا بمغالطة يُظهرها العقل في حينها، أو تصميم على العناد، أو تحكُّم بادِّعاء أن العقل لا يُلتفت إليه دائماً؛ وذلك هو حِسبانيةُ العِلمانيين المثاليين؛ ولهذا يكرر الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى قوله إن علينا قصر النفوس وإذعانها للحق، ولا نملك كفَّ اللسان عن العناد وانقطاع العقل عن المُحاجَّة تكفَّل به علم آداب البحث والمناظرة، إلا أن بعض العقول خاملة لا تدرك الخلل والمغالطة في احتجاج الآخر فتنقطع؛ ولهذا كان الفكر أمانة داخلة في نصوص أداء الأمانات كقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا} (58)سورة النساء؛ فالدين والخلق يقضيان على الإنسان أن يَعِفَّ عن المغالطة ابتداء وإن كان يريد نصرَ حقٍّ معَيَّن؛ فالحقُّ ببراهينه غني عن المغالطة، والغاية الشريفة لا تبيح الوسائل المُحَرَّمة وعليه أيضا أن يمتحن بالمراجعة والتحليل برهانه حتى لا يقع فيها من غير قصد، وإذاظهر له خَلَلُ برهان مكتوب قد نشره، أو غلب به مُناظره مشافَهَة فعليه المبادرة إلى الإعلان والإعلام بما في برهانه من مغالطة لم يكن قاصداً لها، ويتبرَّأ من ذلك.
والسائل طرح سؤالاً حائراً في البرهان المنطقي الذي ذكره؛ فقال عن الله سبحانه وكيف وجد؟، وهذا التساؤل اعتداء على نظرية المعرفة العلمية المفرِّقة بين الواقع المنظور الذي يُدرك العقل كيفيته ومقداره، وبين الواقع المغَّيَّب الذي لا يطمح العقل أصلاً إلى تكييفه وتقديره؛ لفقدان طريق المعرفة إلى ذلك، وإنما يُحَصِّل وصفه من قائل يوجب البرهان تصديقه ويدخل في ذلك الخبر التواتري، أو من وصف يُظهره مشاهدة آثاره، وقد ورد وفق هذا البرهان حديث حسن بطرقه يأمر بالتفكر في خلق الله لا في الله سبحانه؛ لأنه واقع مغيب لا سبيل للعلم به إلا بما أذن به من وصف لنفسه ثابت بالنقل، أو بدلالات خلقه سبحانه.
وطرح على المقدمة الأرسطية التي ذكرها تساؤلاً آخرَ حائراً؛ فقال عن الله سبحانه: لماذا كان هو الإله ولم يكن إلهٌ آخرُ؟، وهذا أيضا غفلةٌ عن التلازم غير المنقطع بين البراهين على وحدانية الله وحده على صفات الكمال بإطلاق، والبراءة من النقص بإطلاق وهذا استشكال ساذَج يقال في رَدِّه كان الله هو الإله وحده؛ لأنه لا شيء في الوجود يملك هذا الحكم غيره سبحانه بأي سبيل؛ فتلازُمُ البراهين منع من وجود إله بحقٍّ غيرِه وإذا أراد وجود إله أو آلهة آخرين بحقٍّ يكونون معه فقد منع من ذلك البراهين العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم؛ فآمن بها جمهور من نزل إليهم القرآن الكريم، وشَقي بها من عاند بكفره، وعجز عن إظهار حجة تغلب البرهان العلمي، بل تمسك بالمغالطة والبراءة من إثبات إله آخر قولاً لا سلوكاً؛ فزعم أن الله لا شريك له سوى شريك يملكه ربنا وما ملك، وأن ذلك الشريك وسيلة تقرِّبه إلى الله الحق فأما البرهان العلمي الذي ذكره ربنا وسماه العلماء الربانيون برهانَ التمانع فمن مثل قوله تعالى {قُل لَّو كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبتَغَوا إِلَى ذِي العَرشِ سَبِيلاً } (42)سورة الإسراء؛ فهذا البرهان العلمي شُحنة فكرية أقام بها الحجة على خلقه بأسهل وأوجز جملة من اللسان العربي المبين؛ فهم لم يروا في كون الله آثاراً لصراع آلهة تلغي النظام الدقيق المنتظم في كون الله؛ فتتغيَّر أو تنهد أرضه وسمواته وكواكبه ونواميسه في كونه، ولا تكون واحدية القصد إلا بوحدانية الإله وهيمنته وقال ربنا سبحانه وتعالى بعد ذكره للسموات والأرض {لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22)سورة الأنبياء؛ فهذا البرهان العلمي شحنة فكرية أخرى أظهر انتفاء الآلهة سواه بما هو مشاهد من انتظام نواميس الكون الذي لا يكون مع تعدَّد القوى واختلاف المقاصد؛ فيكون منهم من يريد الليل علينا سرمداً، ويكون منهم من يريد آلاف السنين، أو جعل أعمارهم بعمر الذباب، أو إخراج الشمس من المغرب وهكذا وهكذا مما لا يحصيه العد؛ ثم تكون الغلبة لهذا مرة، ولهذا مرة؛ فلا يبقى الكون على ناموسه، وإليكم شيء من نواميس الكون التي ذكرها ربنا، ولو كان معه آلهة سبحانه وتعالى لغالبوه فيها أو نازعوه؛ فكانت له الغلبة مرة ولهم مرة، وخبرة البشرية تشهد بأن هذه النواميس لم تتغير قال سبحانه وتعالى {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ * فَالِقُ الإِصبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ حُسبَاناً ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ قَد فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفسٍ وَاحِدَةٍ فَمُستَقَرٌّ وَمُستَودَعٌ قَد فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَفقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيءٍ فَأَخرَجنَا مِنهُ خَضِراً نُّخرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخلِ مِن طَلعِهَا قِنوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّن أَعنَابٍ وَالزَّيتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثمَرَ وَيَنعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُم لآيَاتٍ لِّقَومٍ يُؤمِنُونَ} ، (سورة الأنعام 95-99) وقال تعالى {قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَداً إِلَى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبصِرُونَ * وَمِن رَّحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ}سورة القصص (71- 73)، وقال تعالى {أَمَّن جَعَلَ الأَرضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَل أَكثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاء الأَرضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهدِيكُم فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ وَمَن يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشراً بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ * أَمَّن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ} سورة النمل (60-64).. ولاحظ تردد جملة (أإله مع الله)؛ فلو كان معه إله لتغيرت المشيئة والقدرة، ولاحظ كلمة (خلفاء الأرض)؛ فلولا الله ثم هذا ما وجدت مكاناً تجلس فيه في أرضك هذه، ولما وسعك رزق الله منها، ولو فعل سبحانه غير ذلك لجعل الأرض غير الأرض ولاحظوا قوله تعالى {قل هاتوا برهانكم}، ثم عَقَّب ذلك بقوله {قُل لَّا يَعلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشعُرُونَ أَيَّانَ يُبعَثُونَ} سورة النمل (65)؛ فدعوى الشركاء قول بلا علم كما سيأتي البرهان عليه، وقال تعالى {يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَيُحيِي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَكَذَلِكَ تُخرَجُونَ * وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجاً لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلَافُ أَلسِنَتِكُم وَأَلوَانِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلعَالِمِينَ * وَمِن آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابتِغَاؤُكُم مِّن فَضلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَسمَعُونَ * وَمِن آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحيِي بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَعقِلُونَ}، سورة الروم (19-24)، والنماذج من مثل ذلك كثيرة جداً؛ فبربكم هل يستقرُّ هذا الناموس ولله الواحد الحق القوي المتين شريك ينازعه ودعوى الشريك هذه لم تأت عن علم ألبتة؛ ولهذا طالبهم ربنا بالبرهان سبحانه، ولم تصدر هذه الفرية عن إحاطة بكون الله حتى تكون دعوى علم؛ ولهذا قال سبحانه: {وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُم وَلاَ يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُل أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرضِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ} (18) سورة يونس، ومع أن دعوى الشريك افتراء على الله بغير علم فإن دعوى الشريك باطلة في نفسها؛ لعلم البشر بحال الشريك التي ذكَّر الله الناس بها بقوله تعالى عن الشريك الجماد، والميت الذي ليس بيده شيء: {وَالَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخلُقُونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقُونَ * أَمواتٌ غَيرُ أَحيَاء وَمَا يَشعُرُونَ أَيَّانَ يُبعَثُونَ} (21-22) سورة النحل، وقوله تعالى عن دعوى شركاء يعقلون: {قُلِ ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَملِكُونَ كَشفَ الضُّرِّ عَنكُم وَلاَ تَحوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُم أَقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحذُوراً}، سورة الإسراء (56-57)؛ وبهذه البراهين بطلت دعوى الوسيلة والزلفي والتقريب إلى الله؛ وإنما هناك شفاعة يوم القيامة مشروطة بإذن الله للشافع وبرضاه سبحانه عن المشفوع له؛ فكيف يجوز ادعاء الشفاعة على الله في الدنيا وبغير هذين الشرطين؟
وبعد هذا فكيف يصح قولهم شريك يملكه ربنا وما ملك؟ هل تقبل اللغة هذا؟ وبأي برهان ادعوا على الله أنه أشرك في الحكم والتدبير والملك غيره من خلقه ومملوكيه، وقد نبَّه الله على فساد الدعوى بمثال من أنفسهم، وهو واقع يعيشونه؛ فقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِن أَنفُسِكُم هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَت أَيمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقنَاكُم فَأَنتُم فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُم كَخِيفَتِكُم أَنفُسَكُم كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهوَاءهُم بِغَيرِ عِلمٍ فَمَن يَهدِي مَن أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} سورة الروم (28-29). قال أبو عبدالرحمن: اتضح من كل ما سبق أن مقدمتي ونتيجة لكل حادث محدِث، والعالم مُحدَث فله محدث، وهكذا لكل سبَبٍ مسبِّب إنما هو لِمَا عُلِمَ أنه حادث؛ فلا يكون برهاناً على الخالق سبحانه، وإنما البراهين على الله سبحانه متلازمةٌ مأخوذة من الأنفس والآفاق أي من الكون الذي يُشاهده البشر، ومن الكون المغيَّب عنهم وعندهم براهين وجوده وليس غاية البراهين على الله إثباتَ وجوده، وليس الموجود من أسماء الله الحسنى، وبعض الناس يُخطئ فيدعو ويُعبِّد للموجود، ويسمي ابنه عبدالموجود؛ وإذ اتضحت هذه الحقيقة فواجب عليَّ أن أُبَيِّن طرفاً من براهين الشرع على الله سبحانه، وأن أُبيِّن التلازم بينها، وأن أبين مقتضاها الذي ليس هو إثبات الوجود وحسب وواجب علي أن أذكر البرهان العلمي على التلازم بين البراهين على الله في قطع التسلسل الذي أحدث للسائل أن يقول فمن خلق الله؟، وأن هذا التسلسل غير مُتَصَوَّرٍ ألبتة بعد النظر في البراهين على الله سبحانه، وأن ما اتصف به سبحانه من أوَّلِيَّة بلا بداية وبقاء بلا نهاية مُتَصَوَّر تصوُّراً حتميّاً، وما كان تصوُّره حتمياً فهو واقع حتمي وبيانُ كلِّ ذلك بهذه الوقفات:
الوقفة الأولى: الإيمان بالله ليس إملاءً ولا تلقيناً شرعيّاً في جميع الأديان والرسالات الآتية من الله، بل يأتي إملاء الشرائع والإلزام بها بعد حصول الإيمان الصادق من فرد أو جماعة.
والوقفة الثانية: كون الإيمان بالله ليس تلقيناً شرعيّاً أن خطاب أديان الله ورسالاته ابتداء قبل الإلزام بالشرائع براهين علمية يخاطب الله بها القلب الذي يحصل يقينه من ضرورات العقل، وخطاب للعقل نفسه، وخطاب للسمع والبصر والحواس الظاهرة والباطنة التي يأتي فيها مثل قوله تعالى {أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشعُرُونَ}(12) سورة البقرة، وكل هذه الخطابات إحالة للأنفس والآفاق؛ إذن لم يأت الأمر بالإيمان اعتباطاً؛ بل جاءت المطالبة بالإيمان مصحوبة ببراهينها، وبجمل سهلة لا تعمُّق فيها يفهما كل قوم بلغتهم التي نزل بها كتاب الله إليهم، وخاطبهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم؛ ولهذا وصف الله كتبه بأنها آيات بينات، وأنها هدى ونور، وأنها شفاء، وأن من عارض بينات الله فعليه البرهان؛ لأن الله يأتي بالبرهان ويُطالب به المخاطَب إذا عارض؛ ولأن الله فطر العقل الإنساني المشترك على مبادئ تكفيه في تحصيل الإيمان، وتنقطع به معارضته ولم يضمن ربنا للعقل الإنساني المشترك أن يعلم كل شيء علم مشاهدة أو علم وجودٍ موصوف؛ لأن لله غيباً لم يُطلع عليه بعض البشر، وله غيب حجبه عن كل البشر، وله غيب حجبه عن كل خلقه والكون مسبوق بوجود العقل الإنساني المشترك؛ فهو يتعلم بفطرته ومُكتسباته من الخبرة، وسعيه في التفكُّر والتأمل والاكتشاف لما أذن الله له بمعرفته وفق منتهى قدرته المحدودة؛ ولهذا أيضا جعل الله العقل حُّراً طليقاً في التأمل والاعتراض حتى ينقطع اعتراضه بضرورات الفكر، وَيَقَرَّ الإيمان في القلب، وبعد حصول الإيمان بالبراهين العلمية يكون دور العقل في تلقي الشرع أوامرَ ونواهيَ وأخباراً بالفهم والتمييز والتنزيه عن الجور والكذب، وليس للعقل مجالٌ ثَمَّ في الاقتراح بحذف شيء من الشرع أو زيادة فيه أو استبداله بغيره.
والوقفة الثالثة: أن براهين الشرع وهي في السور المكيَّة الكريمة جاءت متلازمة دالة على وحدانية الله في صفات الكمال تفصيلاً وإجمالاً وعلى وحدانيته سبحانه في التقديس أي البراءة المطلقة من كل عيب ونقص إجمالاً وتفصيلاً كقوله تعالى {لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَومٌ}(255) سورة البقرة، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64)سورة مريم، وهذا التلازم استنبطه العلماء من براهين الله سبحانه، وحاولوا حصره في برهان السبب الذي لا سبب قبله ويَسمُّونه العلة الكافية، وبرهان الكمال وهو البرهان الأنطولوجي عند أنسلم ثم ديكارت، وبرهان القصد والتدبير، وكلها دالَّة على وحدانية الخالق في الهيمنة والقدرة والعلم والحكمة إلخ بكمال مطلق وتلازم مع هذه البراهينِ براهين أخرى كائنة بالبراهين العلمية الأخرى على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمته في بلاغ دين ربه، وبراهين المصالح والمنافع في شرع الله والناس يعرفون بعقولهم وحواسهم المنافع والمصالح، ويدركون حصول المفاسد في البشر والطبيعة من جرَّاء تعطيل شرع الله وحكمه؛ فإلغاء عقوبة الشرع يجعل الدول في عناء شديد من الجرائم الدائمة المخلة بالأمن، وإمضاء عقوبة الشرع يحقِّق الأمن ويحصر الجريمة في أضيق دائرة ومثل ذلك براهين القدرة على البعث.
والوقفة الرابعة: وعدتُ بتحليل شيء من براهين الله وتلازمها، وهذا أوان ذلك، ولا مجال لمتنطِّع يقول أريد براهين علمية؛ فلا تحتج بالقرآن لا مجال لذلك؛ لأن ما أذكره من البراهين العلمية، وليس من إملاء الأحكام الشرعية والأخبار؛ وما دامت نصوص ربنا براهين علمية فخير لنا وأزكى وأشرف أن نوردها كما قال ربنا، ولا نصوغها بعباراتنا؛ فلا أحسن من الله قولاً إلا ما كان استنباطاً فإنا نسوقه بعباراتنا فمن تلك البراهين قوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَن آتَاهُ اللّهُ المُلكَ إِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ}(258)سورة البقرة.. إن هذا الملك يعلم أنه مخلوق، وأنه نشأ من ضعف، وتربَّى منذ المهد، وأنه سيعود إلى ضعف وشيبة، وأنه يموت، ولكنه كابر في ذلك وقال: (أنا أُحيي وأُميتُ)، وهو لن يحيى ميتاً، ولن يميت من لم يحن أجله على يده، ولا يملك من حيل السحر وحقائق العلم ما يحيي به ذباباً ميتاً ولم ينتقل إبراهيم عليه السلام من هذا البرهان زهادة فيه، بل أراد أن يبهته بعجزه عن شيء يشاهده كل الناس، وهو أن يأت بالشمس من المغرب؛ ولهذا بهت الذي كفر وتلازم في هذا البرهان دلائل منها واحدية الله سبحانه في القصد والتدبير؛ فلو كان له شريك لنازعه في ذلك، ولو وجد من يساويه في القدرة جل وعلا لأتى بالشمس من المغرب بعض المرات؛ فانتفى مع واحدية القصد والتدبير وجود شريك، وقد مرَّت براهين التمانع النافية للشريك ولزم من هذا البرهان واحدية المُلك والقدرة والهيمنة.
والعرب تعرف معنى الخلق في لغتها، وأنه إيجاد من عدم، أو إيجاد شيء من شيء خلقه الخالق وحده، ولا يعلمون في الوجود أحداً يخلق بهذه الصفة، بل كل مضيفٍ صنعة إلى الكون فهي عمل له من كون خلقه الله ولم يخلقه هو، وبذات خلقها الله ولم يخلقها هو بقدراتها ومواهبها ومهاراتها؛ لهذا جاءت براهين واحدية الخلق بصور متعددة مرة بمطالبتهم أن يُعَيِّنوا خَلقاً معيَّناً، ويعيِّنوا له خالقاً غير الله، وهم عاجزون عن هذه الدعوى ببرهان وعلم؛ فقال سبحانه عن كونه: {هَذَا خَلقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(11)سورة لقمان؛ فماداموا عاجزين عن إقامة دعوى تُنكر أن هذا خلق الله فهم عاجزون عن تعيين خالق آخر، وقال الله تعالى في هذا المعنى {أَم جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم}(16)سورة الرعد، وكما أظهر الله البرهان على واحديته في الخلق أظهر البرهان على فساد دعوى خالق غير الله أو مشارك له في الخلق، وذلك بتحدِّيهم أن يأتوا ببرهان على تسمية خالق آخر، وأن يأتوا ببرهان على هذه الدعوى وإن لم يسموا الشريك، وإلزامهم بأن الدعوى صادرة عن عدم علم ومكر؛ فقال تعالى: {أَفَمَن هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء قُل سَمُّوهُم أَم تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي الأَرضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَولِ بَل زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكرُهُم وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ}(33) سورة الرعد، والسموات ليست في متناولهم؛ ليدَّعوا العلم بشريك لله فيهن؛ ولهذا طالبهم بما قد يستطيعون البحث فيه؛ فقال تعالى (بما لا يعلم في الأرض).