نجحت الهيئة العامة للسياحة والآثار في تسجيل (مدائن صالح) عروس الجبال والآثار، على قائمة التراث العالمي. وبهذه المناسبة التاريخية نقدم التهنئة لخادم الحرمين الشريفين ولسمو ولي عهده ولصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز
رئيس مجلس إدارة الهيئة ولمقام مجلس الوزراء الموقر على هذه الخطوة الرائدة للرقي بآثارنا وتراثنا الحضاري إلى العالمية. أما أمين عام الهيئة العامة للسياحة والآثار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز وهو الأمين على تراث الوطن، فكلمة شكرا قليلة في حقه، وندعو له بالتوفيق لقيادة هذه المؤسسة التي تشكل الآثار عمودها الفقري على الصعيدين العلمي والاقتصادي.
و(مدائن صالح) أو (الحجر) إحدى أهم وأبرز المناطق التاريخية والمواقع الأثرية في المملكة العربية السعودية. ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي كتابات المؤرخين والجغرافيين والرحالة المسلمين، وجذبت اهتمام أوائل الرحالة الغربيين من القرن الثامن عشر الميلادي، فدونوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن آثارها ومنحوتاتها وكتاباتها ونقوشها الصخرية وجمال طبيعتها. ارتبط موقعها بقوم وحضارة ثمود وزادت شهرتها بعد أن عمرها الأنباط وأصبحت حاضرة لمملكة عربية في عصر ما قبل الميلاد وبعده، وكان موقعها مميزاً على طريق القوافل التجارية الذي يربطها مع حضارات الشام ومصر ووسط وجنوب الجزيرة العربية. وفي العصر الإسلامي أصبحت الحجر محطة رئيسية على طريق الحج من الشام إلى مكة، واستمرت كذلك حتى إنشاء طريق سكة حديد الحجاز، ونشأت بالقرب من آثار الحجر القديمة، مدينة إسلامية وقلاع وحصون ومنشآت مائية من آبار وبرك، فتشكلت في المنطقة على مر العصور حضارات متتابعة ومتعددة، جعل من آثارها ومعالمها الطبيعية - من جبال وصحارى وأودية ونباتات - معلماً قلّ أن نجد له مثيلاً في العالم. وتحملت آثار مدائن صالح (الحجر) عوادي الزمن وجور البشر، وما نابها من تخريب وتشويه، لكن ذلك يبقى ذكرى من ذكريات التاريخ. فقد كانت مدائن صالح على موعد مع التاريخ وذاكرته المتوقدة عندما أعلنت لجنة التراث العالمي في دورتها (32) المنعقدة في مقاطعة كويبك الكندية، موافقتها على تسجيلها في قائمة التراث العالمي كأول موقع أثري في المملكة العربية السعودية، يشهر عالمياً. كانت فرحتي غامرة عندما نقل سمو الأمير سلطان بن سلمان هذا الخبر وهو يتابع مداولات اللجنة لقضايا متعددة عن التراث العالمي، وزاد من سروري عندما تواصلت مع زميلي الدكتور علي الغبان، في كويبك، ليخبرني عن اندهاش المؤتمرين في كويبك بموقع (مدائن صالح) وكيف نال موافقة أغلبية الدول الأعضاء في لجنة التراث العالمي. وكم كنت ممتناً لجهود الدكتور زياد الدريس مندوب المملكة في اليونسكو ومتابعته الدقيقة واتصالاته بممثلي الدول الأعضاء في اليونسكو.
إن هذا التسجيل له معنى كبير، فهو خطوة لتوسيع قاعدة البحث العلمي من جهة وتطبيق مبدأ الشراكة الذي تنتهجه هيئة السياحة مع المؤسسات الحكومية والأهلية والأفراد من جهة أخرى. فموقع (مدائن صالح) بآثاره النبطية والإسلامية ومعالمه الطبيعية، سيكون نقطة جذب للسياحة الثقافية من داخل المملكة وخارجها، وسيكون له مردود اقتصادي يعود بالنفع إن شاء الله على أبناء محافظة العلا خاصة وكافة المنافذ المؤدية لها. إن فوز (مدائن صالح) بالتسجيل على قائمة التراث العالمي جاء نتيجة لجهود حثيثة للدولة، ابتداء بمحافظتها على الآثار والتراث في مدائن صالح وكافة أرجاء الوطن، ثم بإنشائها إدارة للآثار والمتاحف، فكان من أول مشاريع تلك الإدارة تنفيذ مشروع كبير ورائد في حماية آثار (مدائن صالح) وتوثيقها وإزالة المخلفات وأطنان الرمال التي تكدست عبر القرون على واجهات المنحوتات الجبلية والمباني، وأعمال التحسين والتجميل للموقع العام، وترميم المنشآت البنائية فيه، وكانت تلك البدايات الأولى لجعل (مدائن صالح) نقطة جذب للزيارات الرسمية والمجدولة للمواطنين والمقيمين. وتلك الاجتهادات مع تواضعها كانت حافزا للمزيد من الجهود للمحافظة على الآثار في محافظة العلا وفي مقدمة ذلك إنشاء متحف للآثار والتراث الشعبي، يجد فيه الزائر معلومات ثرية عن آثار (الحجر) والعلا. وقد كانت الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله) للعلا ومدائن صالح (شهر صفر عام 1416هـ) تتويجاً لتلك الجهود التي قامت بها الدولة، وفتحت تلك الزيارة آفاقاً جديدة للنهوض بآثار المنطقة. ويجب التنويه بالزيارات المتتابعة لمحافظة العلا التي قام بها أمير منطقة المدينة المنورة الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز (رحمه الله) والأمير مقرن بن عبدالعزيز أمير المنطقة سابقاً، وكذلك الزيارات والمتابعات التي يقوم بها حالياً الأمير عبدالعزيز بن ماجد بن عبدالعزيز لمحافظة العلا وتفقد آثار مدائن صالح، والتأكيد على أهمية المحافظة عليها وتيسير زيارتها للمهتمين من داخل المملكة وخارجها؛ فكان ذلك حافزاً لتنظيم زيارات سياحية لمجاميع منتخبة من اليابان وأوروبا وأمريكا من قبل مكاتب السفر، وبالتعاون مع الخطوط السعودية، لمشاهدة آثار مدائن صالح والاطلاع على النهضة الحضارية للمملكة، وحققت تلك الزيارات والتي لا تزال مستمرة حتى الآن، نجاحاً فائقاً في تقديم مدائن صالح بآثارها وطبيعتها وأهلها للعالم.
إننا ونحن في نشوة فرحنا وسرورنا بهذا النجاح وهذه النقلة الجديدة، نقف احتراماً وتقديراً وإعجاباً بالأسلوب الرصين الذين ينتهجه سمو الأمير سلطان بن سلمان، ربّان السياحة في بلادنا، وعاشق التراث، للنهوض بالآثار وتحبيبها للمواطنين، من منظور علمي وتربوي وتثقيفي، وفي الوقت نفسه إبرازها عالمياً. وكانت زيارات سموه المتكررة لآثار العلا ومدائن صالح ومتابعاته لمراحل إعداد سجلها التوثيقي وتواصله مع الخبراء المعنيين، وافتتاح سموه للمعرض الخاص عن مدائن صالح في مبنى اليونسكو بباريس العام الماضي وبحضور أمينها العام، أثره في توصيل رسالة واضحة للإدارات المختصة في منظمات الأمم المتحدة ومنها منظمة السياحة العالمية، أن المملكة العربية السعودية بمكانتها العالمية وثرائها الثقافي والتاريخي، سيكون لها دور قيادي وفاعل ومؤثر في السياحة الثقافية على مستوى العالم. ولعل من باب التذكير الإشارة إلى أن المملكة كانت إحدى الدول العربية الخمس التي حضرت المؤتمر التأسيسي لليونسكو الذي عقد في لندن عام 1945م (1365هـ) وكان ترتيب المملكة الثالثة من بين الدول العشرين الأوائل التي صادقت على ميثاق المنظمة بناء على خطاب موجه من الملك عبدالعزيز (رحمه الله) والمؤرخ في 24 ربيع الثاني 1365هـ الموافق (26 مارس 1946م) ومضمونه أن المملكة تبرم دستور المنظمة وتصادق عليه، مع الإشارة إلى أن المملكة تسير في تعليمها وثقافتها طبقاً لما جاء في القرآن الكريم، وسنة الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الأهداف التي أنشئت من أجلها المنظمة تتماشى مع أهداف المملكة للتعاون بين الأمم في مجال العلم والثقافة، والإسهام في صون الأمن والسلم الدوليين، والتفاعل الواعي مع التطورات الحضارية العالمية في مجال العلوم والثقافة والآداب، والمشاركة فيها بما يعود على المجتمع والإنسانية بالخير والتقدم، ومنه أيضاً الاهتمام بالإنجازات العالمية في ميادين العلوم والآداب والفنون المباحة. ومن هذا المنظور وفي ضوء الرسالة التي تضطلع بها الهيئة العامة للسياحة والآثار بإدارة أمينها العام الأمير سلطان بن سلمان، ستكون آثار المملكة الثابت منها والمنقول، وتراثها المتنوع، وسيلة قوية للتواصل مع ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى.
ونحن على موعد في القريب المنظور إن شاء الله، لتسجيل مدينة (الدرعية التاريخية) و(منطقة جدة التاريخية) على قائمة التراث العالمي اعتماداً على موافقة المقام السامي الكريم. وسيشاهد المواطن والمقيم والزائر قريباً إن شاء الله عدداً من المواقع الأثرية والتاريخية والقرى التراثية في مختلف مناطق المملكة وقد فتحت للسياحة الثقافية وبتخطيط سليم يتفق مع الضوابط الإدارية والفنية المطبقة عالمياً.
إن آثار مدائن صالح (الحجر) خاصة، والآثار الأخرى المنتشرة في محافظة العلا، مقبلة على دراسات علمية مكثفة وتخطيط سليم وتهيئة، لتمكين المواطنين من الاستمتاع والتعرف على معالمها الحضارية، ونتوقع كذلك أن تتطور البنى التحتية في وسائل النقل البري والجوي ومنها تنفيذ مطار العلا. ويبقى الدور المأمول على القطاع الخاص - أفراداً ومؤسسات - للتعاون مع هيئة السياحة لتقديم خدمة سياحية فيها الخير لكل أبناء الوطن، وتوفير الفرص الوظيفية لخدمات قطاع السياحة.
بقي لي كلمة أوجهها للعلماء السعوديين من مؤرخين وآثاريين وأدباء ومفكرين ممن كتبوا وألفوا عن مدائن صالح وآثار الحجر والعلا، وهم كثر ومن أولئك الشيخ حمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري (رحمهما الله) وعاتق البلادي، وعلماء الآثار ممن تخصص وبحث في آثار مدائن صالح والعلا وفي نقوشها وكتاباتها فأذكر منهم عالم الآثار الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري وتلامذته الدكاترة من جامعة الملك سعود عبدالله آدم نصيف وعلي غبان وسليمان الذييب وسعيد السعيد وسالم طيران ومشلح المريخي وعوض الزهراني وضيف الله الطلحي وحسين أبو الحسن وجهز الشمري وهتون الفاسي وحياة الكلابي وغيرهم.
ولعلي أذكر في هذه المناسبة بالتقدير، جهود أولئك الزملاء الذين تناوبوا على إدارة شؤون الآثار وما قدموه من أعمال تجاه مدائن صالح ومنهم الدكتور عبدالله حسن مصري وحامد أبودرك وكذلك ضيف الله الطلحي وعبدالله السعود وعلي المغنم. وهناك اثنان ممن تحملا الجهد والمعاناة في إدارة شؤون الآثار في محافظة العلا، ولا يزالان يؤديان عملهما بصمت وكفاءة على مدى أربعة وعشرين عاماً أجد لزاماً عليّ أن أذكرهما؛ لأنهما يستحقان الذكر والإشادة وهما الأستاذان نايف العنزي ومطلق بن سليمان المطلق، فلهما الشكر والتهنئة بفوز مدائن صالح بموقع على خريطة التراث العالمي.
salrashid@yahoo.com