(هيأ الله سبحانه وتعالى لهذه البلاد من الرجال المخلصين ما يفوق العد، فكانت لهم إسهاماتهم المخلصة في بناء هذا الوطن المعطاء، وبرزت لهم جهود طيبة تذكر بالخير فتشكر، ومن هؤلاء صالح العذل الذي كان من رجال الملك عبد العزيز المخلصين).
لقد مهر صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض بهذه الكلمات كتاب (من رجالات الملك عبد العزيز صالح باشا بن عذل: حياته، أعماله، أقرباؤه) الذي أعدّه على أفضل صورة حفيد صالح باشا المهندس سلطان بن محمد بن صالح (باشا) بن محسن بن عذل.. ويعرض الكتاب الواقع في 1733 صفحة في مجلدين لحياة صالح بن عذل وأقربائه وتفاصيل حياته والبيئة التي عاش فيها، ويُعرّف الكتاب بدور أسرة العذل في المجتمع السعودي، ويتناول بشيء من التفصيل الدور الذي قام به صالح (باشا) في عهد الملك عبد العزيز إبّان تأسيس الدولة السعودية الحديثة والأعمال التي قام بها أثناء مسيرة حياته الزاخرة في خدمة الوطن، وهو من أبرز الرجال الذين ناصروا الدولة السعودية الحديثة، وكان موضع ثقة الملك عبد العزيز وأحد الرجال الذين اعتمد عليهم في تنفيذ سياساته الخارجية والداخلية.
يتألف الكتاب من ثمانية أبواب في جزءين، وقد استسقى المؤلف المعلومات من مصادر ومراجع متعددة ومن أهمها وثائق أرشيف الخارجية البريطانية، والأرشيف العثماني التي يُفصَح عنها لأول مرة.. ومن خلال قراءتي في الكتاب على طول نفسه واتساع أفقه، آثرت القارئ بمحاولتي استخراج ترجمة موجزة مستفادة من هذا الكتاب الكبير.
ولد صالح بن محسن بن عذل في مدينة الرس في منطقة القصيم في صفر من عام 1270هـ الموافق للرابع من نوفمبر 1853م، ونشأ في بيت لا تعدوه الفضائل العصامية من علم وخلق وحكمة وبلاغة وأدب وشجاعة وفروسية فترعرع وشبّ وبلغ مبلغ الرجال بين أفاضل هذا البيت، فخرج ابن عذل ما له هوى إلا مع الفضيلة، وكان ذكياً شديد الإحساس صاحب همة عالية وعزم متين، وهو رجل مفكّر صموت، وكان قوي الحافظة فإذا رأى إنساناً مرة واحدة لا ينساه مهما تقادم الزمن وبعد العهد.
لقد نشأ صالح بن عذل في أسرة متوسطة الحال لها أملاك زراعية عديدة، وكان مسكنه في قصره المسمى (قصر عذله) وامتهن التجارة واحترفها وكان عصامياً سوّدته نفسه بعمل وجد واجتهاد.
وهو شخصية قيادية من بيت عز وإمارة فجدّه الخامس (أبا الحصين) اشترى الرَّسّ سنة 970هـ فتعاقب أحفاده على إمارتها، وحينما رأى فيه والده رجاحة العقل، وحكمة القول، ونفاذ البصيرة، أوكل أملاك جده (عذل) وجدته (ميثا بنت منصور بن سيف العسّاف) إليه وكان حينها يرفل في أثواب الأربعين من عمره.
ولا شك أن رجلاً بهذه السمات والشمائل ينال إعجاب من يلتقي به، فالتقى الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - اللقاء الأول في عام 1324هـ 1906م بعد مقتل عبد العزيز بن رشيد في وقعة روضة مهنا للتفاوض على عودة الرَّسّ إلى الدولة السعودية الحديثة.. فنال ابن عذل إعجاب الملك عبد العزيز وحاز تقديره لوفائه الشديد لابن رشيد حينما كان يحمل عهداً له، ومن خلال هذا الوفاء بالعهد، والالتزام بالوعد، برزت قناعة الملك عبد العزيز به، فأبقاه في معيّته، فما لبث إلا أربعة أشهر فقط على انضمامه إلى الملك عبد العزيز حتى عيّنه مستشاراً له، ومن ذلك الوقت أصبح من أبرز الرجال الذين ناصروا الدولة السعودية الحديثة، إبّان تأسيسها، فأوكلت إليه مهام عديدة كانت ذات طابع سياسي وإداري واقتصادي وعسكري في أحايين كثيرة.
وتكشف مسيرة عمل ابن عذل مع الملك عبد العزيز رحلة مشرفة من الوفاء والتفاني للملك المؤسس، ولكن أهم المهام التي كَلّف الملك عبد العزيز بها ابن عذل وأجلّها هي مهمته الدبلوماسية لاستانبول؛ فقد كانت مهمة شديدة الحساسية في مرحلة شديدة الحساسية أيضاً من مراحل توحيد المملكة، وقد أدّى دوره الدبلوماسي فيها على أكمل وجه، ومنحه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رتبة أمير الأمراء (باشا) في يوم الثلاثاء 23 شعبان 1325هـ الموافق للأول من أكتوبر عام 1907م بتوصية من الملك عبد العزيز؛ لإعجابه الشديد بشخصيته وتقديراً لمكانته ودوره.
وعلى الرغم من الاحترام والمكانة والحفاوة التي لقيها ممثل الملك عبد العزيز في الاستانة لما يقارب سنة، إلا أنه لم يسعد إلا برجوعه إلى وطنه.. يقول أمين الريحاني في (تاريخ نجد الحديث): (أتيح لي الاجتماع بصالح (باشا) بن عذل يوم كنت في الرياض، فألفيته شيخاً جليلاً يحمل في أيام السلم عصا من الشوحط، ومثل أكثر أهل نجد لا يكثر الكلام.
اجتمعت به في (أبو مخروق) يوم خرج عظمة السلطان (أي الملك عبد العزيز) للنزهة وكنا في معيّته.
وكان عظمته قد حدثني عن ذلك الوفد فرغبت في التعرف على أحد رجاله، ففاجأني عندما كُنّا جالسين في ذلك الغار قائلاً: هذا صالح العذل..
ثم ناداه: يا (باشا) يا (باشا) تعال تعرّف على الأستاذ..
جاء صالح (باشا) يبتسم وجلس مثلنا على الأرض، فسألته إذا كان سُرَّ في إقامته بالاستانة؟ فأجاب موجزاً: ما سررنا بشيء مثل سرورنا يوم رحّلونا منها). انتهى كلام الريحاني.
ثم عيّن الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه - ابن عذل في الأحساء بين أواخر عام 1326هـ- 1908م وأواخر عام 1327هـ- منتصف 1909م، ونجح في عمله لخبرته في كيفية التعامل مع الحكومة العثمانية من جهة، ولعلاقته الجيدة مع قبائل منطقة الأحساء خاصة العجمان الذين ينتمي إليهم.
وحين شبّت فتنة الحريق في عام 1328هـ- 1910م ومخاطر الثلاثي المحيط بالملك عبد العزيز (ابن رشيد، والهزازنة، والشريف)، كان للعذل حضوره الفاعل في مسرح الأحداث تحت جناح الملك وتوجيهه حين نجح في إقناع ابن رشيد - الذي تربطه به وأفراد أسرته صلة قديمة وثيقة - بوجوب عقد الصلح مع الملك عبد العزيز آل سعود وألا يركن إلى خداع الشريف وأن يغتنم هذه الفرصة، فوافقه ابن رشيد على ذلك، ومن هنا أسهم العذل في حلّ عقدة من العقد الثلاث، وبقي ابن عذل الشخصية المناسبة لمراقبة الأوضاع بين الشريف وابن رشيد.
وإلى جانب هذه المهمات الصعبة التي كلّف الملك عبد العزيز بها ابن عذل، أوكل إليه جباية الزكاة من القبائل، وهي مهمة تتخلل مهامه ولا تقل أهمية عنها، ولا يمكن الوثوق بمثل هذه المهمة إلا بشخصية تتحلى بالأمانة ومخافة الله وحسن التصرف وقوة الإقناع والحنكة في التعامل، وكان ابن عذل هو ذلك الشخص المناسب لتمتعه بكل هذه المزايا إلى جانب علاقته غير المحدودة مع شيوخ القبائل.. وهي مهمة غير يسيرة مع القبائل التي تقيم بالمناطق الحسّاسة، ويتأكد لنا ذلك إذا عرفنا أن ابن عذل اعتُقل في بغداد من قبل الإنجليز حين كان يقوم بجباية الزكاة من قبيلة الدهامشة من عنزة في العراق من 10 من صفر 1342هـ- 22 سبتمبر 1923م، وهو الأمر الذي أثار غضب الملك عبد العزيز حتى أفرج عنه.
وقد استمر في مسيرة حياته شهماً شجاعاً زكياً لم يقعده عن عمله شيء من جباية الزكاة وخوض المعارك الحربية وفض النزاعات، ولم يقعده كبر سنّه عن نداء الواجب، ولم يتقاعس عن بذل النفس في خدمة الوطن، حتى إنه شارك وهو في الرابعة والسبعين من عمره في معركة السبلة سنة 1347هـ- 1929م مع الملك عبد العزيز ضد الخارجين عليه..
ومن طريف ما يذكر بعد معركة السبلة أن الملك عبد العزيز توجّه إلى الرَّسّ بدعوة من صالح باشا الذي طلب من الملك أن يزور بلدته وأن يتناول الغداء في بيته، تقديراً لأهالي القصيم لأنهم جاءوا بمعجب الغذاري إلى الملك عبد العزيز لما طلب إحضاره إليه، ووافق الملك على ذلك، وبعد أن وصل جلالته إلى الرَّسّ دعاه أميرها إلى الغداء، فاضطر الملك إلى الاعتذار موضحاً بأنه سبق وأن وافق على الغداء عند صالح باشا، وأنه لن يقيم في البلدة إلا يوماً واحداً، فاغتم الأمير وقال: (إذا لم تقبل دعوتي فسأترك البلاد ولن أعود إليها).
فقرر الملك أن يحل هذه المشكلة بطريقة ذكية، واقترح أن يُعَدّ طعام الغداء من قبل صالح باشا ويؤكل في بيت الأمير.. ورضيا بذلك الحل الوسط.
وتوفي صالح باشا بن محسن بن عذل في الرياض يوم الخميس العاشر من محرم سنة 1350هـ الموافق للثامن والعشرين من مايو سنة 1931م، وووري جثمانه في مقبرة العود في الرياض مخلفاً وراءه ذكرى عطرة.
عنوان المراسلة: ص.ب 54753 - الرياض 11524 فاكس: 4656444
manfoha1@yahoo.com