إن الاتحاد الأوروبي لا يعمل وفقاً لإستراتيجية متماسكة في التعامل مع العديد من القضايا. فهو لا يملك إلا سياسات اقتصادية هزيلة فيما يتصل بالتعامل مع الطموح الروسي، ولم يضع أي خطة للّعِب باعتباره لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط؛ وعلى الرغم من زعامته الأصيلة فيما يتصل ببروتوكول كيوتو، إلا أنه لم يتوصل إلى أي برنامج عمل يخلف بروتوكول كيوتو في التعامل مع قضية تغير المناخ. أما القضية الأعظم من كل القضايا، والتي تتلخص في كيفية التعامل مع الصين والهند وغيرهما من العمالقة في المستقبل، فلم تلق اهتماماً يذكر من جانب صناع القرار على مستوى الاتحاد الأوروبي.
إن هذه القضايا تتطلب الاهتمام الآن، ولابد وأن يحرص الاتحاد الأوروبي على عدم تجنب الانتقادات الموجهة إلى أنشطته في إطار سعيه إلى تبني إستراتيجيات عالمية جديدة. وإذا ما كان الاتحاد الأوروبي راغباً في النظر إلى ما هو أبعد من قدميه فلابد وأن يعمل على التوفيق بين وجهات النظر المختلفة في كافة أنحاء أوروبا فيما يتصل بمكانته وقدرته على خدمة مصالحه في العالم. وهذا يعني الالتفات إلى الآراء السياسية التي تعتبرها المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي من الآراء (المشككة) في أوروبا.
إن الضغوط المضادة هنا تتمثل بطبيعة الحال في شعور بيروقراطية الاتحاد الأوروبي بأنها غير محبوبة وليست محل تقدير. ونكاد الآن نشهد ثقافة الاستعداد للقتال تنشأ بين العديد من المسئولين الرسميين، الذين يخشون أن يؤدي تحريك نيران الانشقاق بين الناخبين الأوروبيين إلى تحويل الوحدة الأوروبية عن مسارها ذات يوم.
إن التشكك في أوروبا يجسد كل ما يكرهه المدافعون عن أوروبا. وهم يخشون أن ينجح الساسة والصحافيون، الذين يعارضون إستراتيجياتهم الرامية إلى توظيف المزيد من الاتحاد على الصعيدين السياسي والاقتصادي، إلى قلب موازين الرأي العام ضد الاتحاد الأوروبي.
وكثيراً ما يقابل الساسة المتشككون في أوروبا والذين انتخبوا لعضوية البرلمان الأوروبي بازدراء لا يقل عن الازدراء الذي يحمله المؤمنون للكفار. بيد أنه من المضحك أن نتصور أن المتشككين في أوروبا يمثلون أغلبية صامتة قد تنهض ذات يوم وتدمر الاتحاد الأوروبي.
فالحقيقة أن الدعم الشعبي للمشروع الأوروبي لم يكن متردداً طيلة ربع القرن الماضي، بل لقد اكتسب المزيد من القوة في الآونة الأخيرة.
ففي بداية الثمانينيات، حين كانت أوروبا تعاني من التردد، وحين كان التعبير المعتاد في أجهزة الإعلام هو (التيبس الأوروبي)، كان 50% ممن شملتهم استطلاعات مؤسسة (يوروباروميتر) يرون في عضوية الاتحاد الأوروبي عاملاً إيجابياً بالنسبة لبلدانهم. وذكر 19% أن تأثير العضوية كان سلبياً، أما بقية المشاركين فلم يكونوا رأياً واضحاً. أما اليوم فقد بلغت نسبة المؤيدين للاتحاد الأوروبي 57%، وانحدرت نسبة غير الراضين عن الاتحاد إلى 15%.
الآن لا يشكل المتشككون في أوروبا أغلبية في أيٍ من بلدان الاتحاد الأوروبي. ولا أساس من الصحة للانطباع السائد بأن المواطنين في غرب أوروبا وشرقها على السواء يديرون أظهرهم الآن للاتحاد الأوروبي. وتؤكد الحقائق أنه على الرغم من نظرة الناخبين إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره خيالاً بعيداً، ألا أن أغلبهم يقدرون حاجة أوروبا إلى الاتحاد في هذا العالم حيث باتت الصين والهند والدول السريعة النمو الأخرى تستعد لتحديها.
في ظل هذه الموجة من الدعم والتأييد، يتعين على أنصار أوروبا أن يتبنوا توجهاً أكثر ميلاً للتعددية فيما يتصل بعملية اتخاذ القرار والحوار في الاتحاد الأوروبي. كما يتعين على المفوضية الأوروبية أن تنظم المناقشات العامة التي تمنح الأصوات المعارضة فرصاً متكافئة. لابد وأن يدرك أنصار أوروبا أن التشكك في أوروبا أمر صحي في الأساس، وذلك لأنه يدعو إلى المزيد من الفحص الدقيق للخيارات السياسية المتاحة أمام أوروبا، وبالتالي يزيد من مشاركة المواطن الأوروبي العادي في اتخاذ القرارات الخاصة بالاتحاد الأوروبي. والمشاركة الأعظم لابد وأن تؤدي إلى فهم أفضل للقضايا المطروحة والأسباب التي دعت إلى تبني بعض السياسات التي تتحدى أو تكاد تلغي القوى السيادية للدول الفردية.
ظل أنصار التكامل الأوروبي طيلة نصف قرن من الزمان يطالبون بتقبل جهودهم بلا مناقشة أو اعتراض. والآن بات لزاماً عليهم أن يتخلوا عن هذا المطلب. وربما تمر عدة أجيال قبل أن ينشأ نظام سياسي يشمل الاتحاد الأوروبي بالكامل، إلا أن الخطوة الأولى على هذا المسار تتلخص في تشجيع الاتحاد الأوروبي للناس على الإدلاء بآرائهم، حتى ولو كانت هذه الآراء غير مريحة لبعض الناس.
غايلز ميريت أمين عام مركز دراسات (أصدقاء أوروبا) الذي يتخذ من بروكسيل مقراً له، ورئيس تحرير الجريدة السياسية (عالم أوروبا).
خاص- «الجزيرة»