الدراسات المساندة أداة أساسية في منظومة التخطيط العلمي، إذ إنّها تتيح للمخطط فرصة صياغة الأهداف والسياسات والبرامج وفق قاعدة متكاملة من المعلومات والبيانات الإحصائية ذات الصلة بوضع المنشأة، وإمكاناتها المادية والبشرية، والصعوبات أو المعوقات التي تحدُّ من قدرتها على ممارسة مهامها على أفضل صورة ممكنة.
هذه الدراسات المساندة تبدو أهميتها أكبر، وأشدّ إلحاحا، حين تخص منشأة عامة أنيط بها مسؤولية المحافظة على الأمن الأخلاقي المجتمعي، ولأنّ الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي المنشأة العامة التي تباشر أداء هذه الرسالة السامية، فقد اهتمت بإجراء هذه النوعية من الدراسات، بهدف صياغة برامجها التطويرية على قاعدة بيانات علمية وصولاً إلى مؤشرات إنجاز أفضل.
من نماذج هذه الدراسات، والتي ظهرت نتائجها الأولية مؤخراً دراسة بعنوان (تطوير العمل الميداني في الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقد أنجزها فريق علمي متخصص من معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك سعود، بتكليف من الرئاسة العامة، واستغرق إنجازها نحو العامين.
إلى جانب الدراسة النظرية لمفهوم رسالة الحسبة، وخصائص الاحتساب، والتنظيمات الإدارية للهيئة، ومراحل تطورها، ركزَّت هذه الدراسة، وبمنهجية وحيادية علمية، على إشكالات العمل الميداني، وآليات تطويره، وأجرت بهذا الخصوص مسحاً ميدانياً عشوائياً لعينات مجتمعية مختلفة، على مستوى جميع مناطق المملكة، وفق نسبة إجمالي السكان، وقد تكونت العينات المختارة من الجمهور، والعاملين في الميدان، والعاملين الإداريين بالهيئة، وعدد من المسؤولين من مختلف القطاعات والجهات الإدارية الأخرى ذات الصلة.
من أبرز مؤشرات هذه المسوح الميدانية:
أولاً: عينة الجمهور: ومن أبعاد هذه العينة:
- الاتجاهات نحو وظيفة عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل عام: وافق (94.5 %) على أنَّ مهمة عضو الهيئة واجبة في كل مجتمع مسلم، و(88.6 %) على أنَّه لو تُرك كل شخص وهواه لعمت الفوضى والمنكرات.
- الاتجاهات نحو أسلوب تعامل عضو الهيئة مع الجمهور: وافق (71،7 %) على أنَّ عضو الهيئة يحرص على التعامل مع الناس بالعدل، و(66.6 %) على أنَّه يترك انطباعاً جيداً لدى من يتعامل معهم.
- الاتجاهات نحو مدى إلمام عضو الهيئة بالقواعد الفقهية والنصوص الشرعية: وافق (84.4 %) على أنَّ عضو الهيئة لا يقتصر دوره على إلزام المواطنين بالصلاة في مواقيتها فقط، و(78.1 %) على أنَّه يحرص على إفهام الجمهور بخطورة المنكرات.
- الاتجاهات نحو مدى إلمام عضو الهيئة بالنواحي التقنية واستخدامه لها: وافق (47.6%) فقط على أنَّ عضو الهيئة يستخدم الوسائل التقنية في الكشف عن المنكرات.
ثانياً: عينة أعضاء الهيئة القائمين بالعمل الميداني: ومن أبعاد هذه العينة: - الرضا عن العمل: وافق (98 %) على أهمية الدور المناط بهم في المجتمع. في حين وافق (19.9 %) فقط على مناسبة الحوافز المادية، و(17.3 %) على قيام جهاز الهيئة بتوفير الرعاية الأُسرية الكافية لهم.
- الإلمام بآليات العمل: وافق (100 %) على أهمية أن يحرص عضو الهيئة على حفظ اللسان عن الكلام السيئ، و(98.7 %) على أن يتطابق سلوكه الشخصي مع ما يأمر به أو ينهى عنه.
- معوقات العمل الميداني: وافق (97.3 %) على أنَّ نقص عدد الأعضاء العاملين في الميدان يُشكِّل عائقاً أساسياً، و(88.5 %) على أنَّ عدم وجود كوادر إدارية متخصصة لدى مراكز الهيئة يحول دون إنجاز المهام بالدرجة المطلوبة.
ثالثاً: عينة الإداريين العاملين بالهيئة: ومن أبعاد هذه العينة: - طبيعة العلاقة بين الجهاز الإداري والجهاز الميداني بالهيئة: وافق (82 %) على وجود إشكالية خاصة بعدم قدرة الجهاز الإداري بالهيئة على حماية الأعضاء العاملين في الميدان من الاعتداءات. و(74%) على وجود إشكالية خاصة بنظام الورديات.
- القدرات والخصائص التي ينبغي توافرها في عضو الهيئة حتى يتسنى له النجاح في مهامه: وافق (100 %) على أهمية خاصية فن المهارة في التعامل مع الناس، والمرونة والقدرة على التعامل مع المواقف المختلفة.
رابعاً: عينة المسؤولين بالإدارات والجهات المختلفة ذات الصلة: ومن أبعاد هذه العينة:
- مستوى العلاقة بين الجانبين: وافق (25%) على أنَّها علاقة ممتازة، و(13.3%) جيدة جداً، و(53.3%) جيدة، و(8.4%) ليست جيدة.
- عدم تناسب العمل الميداني مع المتغيرات التي طرأت على المجتمع السعودي: وافق (20.5%) على أنَّ من أسباب عدم التناسب: تسارع التطورات والمستجدات بشكلٍ يصعب ملاحقته، و(18%) على انخفاض المستوى التعليمي لرجال الهيئة، و(18.5.%) على انخفاض مستواهم الثقافي.
- إيجابيات الهيئة: وافق (20.4%) على حماية الأعراض، و(16.5%) على الحد من انتشار المنكرات، (11.3%) على الحفاظ على الأمن العام.
- سلبيات الهيئة: وافق (13.4%) على الاندفاعية من بعض أفراد الهيئة، و(10%) على تركيز الهيئة على جانب النهي عن المنكر والتقصير في جانب الأمر بالمعروف، و(10%) على نقص عدد أفراد الهيئة الميدانيين.
إنَّ النتائج الأولية لهذا المسح الإحصائي تؤكد جملة من الوقائع، أبرزها:
1- إيمان السواد الأعظم من سكان هذه البلاد المباركة بأهمية وقدسية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنَّها ركن أساس في مظلة منظومة الأمن الأخلاقي المجتمعي.
2- المكانة الرفيعة لرجال الحسبة في المجتمع، وأنَّهم يُشكِّلون الخط الدفاعي المتقدم للتصدي للمنكرات والفوضى السلوكية.
3- الحاجة إلى تمكين رجال الحسبة من استخدام وسائل الاتصال والتقنية الحديثة، لإنجاز مهامهم بأقصى فعالية ممكنة، ومن هذه الوسائل: أجهزة الاتصال اللاسلكي اللازمة لعمليات التنسيق والتوجيه والمتابعة في الميدان، وقد ظلت الرئاسة تطالب بتوفير مثل هذه الأجهزة أسوة بالجهات الأمنية الأخرى، ولكن دون جدوى.
4 - نتائج هذا المسح الميداني ألقت الضوء بقوة على عدد من المعوقات العتيدة التي تواجه العمل الميداني بوضعه الراهن، وفي مقدمتها نقص الإمكانات والمخصصات المالية، والتي ظلت تحول دون الوفاء بتطلعات الرئاسة للتطوير والتحديث، ومعالجة الصعوبات الراهنة، ومن أبرزها: نقص عدد العاملين في الميدان بما لا يسمح بالوفاء بالاحتياجات المتزايدة لخدماتهم، إذ بحسب إحصائية رقمية، تأخذ في الحسبان بمتغير: إجمالي سكان المملكة الحالي، فإن عضو الهيئة يقابل نحو (6637) شخصاً، بما يشير إلى حدة النقص الراهن وتراكمه خلال الزمن.
ومن الصعوبات كذلك نقص القوى المساندة للعاملين في الميدان، خاصة رجال الأمن، فالمتواجدون قلة، ولا يسمح لهم بحمل السلاح، بما يجعل رجال الحسبة عرضة في الغالب للتطاول والتعدي من قبل بعض المخالفين، وهذا مما يضعف من قدرتهم على أداء مهامهم بصورة أفضل. وبالجملة فإن النقص في رجال الحسبة والقوى المساندة يزيد من صعوبات تفعيل العمل بنظام الورديات بالصورة المطلوبة.
ومنها: عدم وجود حوافز مادية مناسبة لمواجهة متطلبات العمل الميداني ومخاطره، وقد جرت محاولات لتحسين هذا الوضع، من خلال المطالبة بصرف بدل طبيعة عمل ميدان قدره (20%) ولا تزال الهيئة في انتظار الموافقة.
5- ما ورد من ملاحظات حول حاجة رجال الحسبة إلى دورات متخصصة في العلوم الأمنية ذات الصلة بمهامهم، وفي مهارات التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة، ووجود حالة من الاندفاعية لدى البعض منهم، فإن الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصدد تنفيذ إستراتيجية تطوير طموحة تتضمن العديد من برامج التدريب المتخصصة والمتنوعة (شرعية، وإدارية، وإعلامية) وأخرى لتعليم وإجادة اللغات الأجنبية، بهدف صقل مهارات العاملين، ورفع قدراتهم الفنية، والعلمية، والشرعية، واستيعاب المزيد من العلوم أو النظم ذات الصلة بفقه الحسبة، مثل علم الجنايات، ونظام الإجراءات الجزائية، إضافة إلى عقد دورات لهم في مجال العلاقات الإنسانية، وأساليب التعامل الملائم، وقواعد الانضباط وفقاً للنظم واللوائح والتعليمات الصادرة، فضلاً عن التَّحلي بالحكمة والتروي واستعمال الرفق واللين، بما يكفل استيفاء ميزان العدل والقسط في كل الإجراءات المتبعة، والتنسيق الفعَّال مع الجهات الأمنية الأخرى ذات الصلة في مباشرة ضبط الوقوعات. ومن البرامج كذلك ما يتعلق بتأهيل المدربين، والقيادات، وتوسيع دائرة التواصل الإلكتروني، ونشر المعرفة، وتقنية المعلومات، لتفعيل علاقات الهيئة المجتمعية خاصة الإعلامية منها.
هذه الحزمة من البرامج، سوف تحدُّ مستقبلاً بإذن الله من الإشكالات المصاحبة للاجتهادات الفردية الخاطئة، ويحفظ للمتهمين أو المضبوطين حقوقهم الإنسانية، وكرامتهم الشخصية، وخصوصياتهم الذاتية.
6 - ما ورد من ملاحظات حول الإهمال النسبي لركن الأمر بالمعروف والتركيز على النهي عن المنكر، فقد يبدو هذا الأمر ظاهراً نتيجة للزخم الإعلامي المرافق في الغالب لمسائل ضبط الوقوعات، ولكن الواقع خلاف ذلك، فالهيئة تعمل وفق جهد متوازن شامل لركني الحسبة، وبلغة الأرقام تشير إحصائية عام 1426- 1427هـ إلى أنَّ إجمالي المناشط في مجال إقامة المراكز التوجيهية والندوات والمحاضرات والكلمات التوجيهية قد بلغ أكثر من (47) ألف منشط، وفي مجال توزيع المطبوعات المقروءة والمواد المسموعة، بلغ نحو (8) ملايين منشط، إلى جانب المشاركة الفعَّالة في الملتقيات والمعارض ذات الصلة.
بالمحصلة النهائية، هذه الدراسة حلقة من سلسلة حلقات، في إطار برنامج الدراسات المساندة التي تنهض به الرئاسة العامة، لبناء منظومة التخطيط والتطوير وفق قاعدة واسعة من البيانات والمعلومات، والقادم بإذن الله يحمل الكثير من مؤشرات الإنجاز والعمل.