في بداية الثمانينيات وجزء من التسعينيات، كان ما يسمى بالصحوة الإسلامية تقتحم البيوت، وتتذرع بقال الله وقال رسوله في تثوير المجتمع، والتحريض على العصيان، وشق عصا الطاعة، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة، وتارة تحت ذريعة النصيحة (لولي الأمر).
آنذاك رفع العلماء في مواجهة هذه الحركات الانتهازية شعار: (الأصل في النصيحة لولي الأمر السرية وليس العلنية)؛ وساقوا من الأدلة ما يؤكد أن الإسلام كدين ومنهج حياة يهمه أول ما يهمه الاستقرار، ونبذ الفتن، وكل الأسباب والبواعث التي تؤدي إليها. وأهم هذه الأسباب خلع يدٍ من طاعة، وتكريس الفرقة، أو الحث عليها، ونشر الاضطراب الاجتماعي. وقد استطاعوا بالفعل، وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- تطويق هذه (الفتنة)، وتفويت الفرصة على أولئك الانتهازيين الثوريين، وإفشال مخططاتهم التي كانت محض سياسية، تسعى إلى تكرار التجربة الإيرانية، بعد أن يلبسوها لباساً سنياً.
وبعد أن تشتت بالانتهازيين السبل، وهرب قادتهم إلى خارج المملكة، خرج علينا أحد مدرسي كلية الشريعة المتقاعدين - كما تقول سيرته العملية- ومارس ما كان يمارسه التيار الصحوي الثوري، فأصدر البيانات تلو البيانات (التحريضية)، والتي تؤدي الدور ذاته الذي كان يؤديه الثوار الصحويون في السابق ضارباً بمبدأ (السرية) التي يُنادي به علماء أهل السنة في مناصحة ولي الأمر عرض الحائط؛ رغم أن هذا الشرط شرط ضرورة، إذا تم تجاوزه سقطت شرعية النصيحة من أساسها، وليس شرطاً إجرائياً يجوز الاتفاق على مخالفته.
وأنا هنا لا أقف ضد النقد، ولا أقول بتكميم الأفواه، غير أن هناك فرقاً بين أن تنقد وأنت تنطلق من أنك أحد (الموقعين عن رب العالمين)، وتسمي نفسك في موقعك على شبكة الإنترنت (سماحة الشيخ الدكتور)، وبين أن تقول (هذا مجرد رأي إنساني) قابل للصواب والخطأ. فهذا الشيخ عندما يصدر (بياناته) تلك يُصدرها من منطلق أنها (فتوى)؛ والفتوى حسب المصطلح: (ما يُفتي به المفتي أو العَالمُ بعلوم الدين وفي قضايا الشرع ليبين الحُكم الصحيح)؛ وبالتالي فإن من يتجاوزها فهو لا يتجاوز رأياً (إنسانياً) قد يحمل الصواب مثلما قد يحمل الخطأ، وإنما يتجاوز رأياً (ربانياً) يترتب على تجاوزه تبعات خطيرة، في حين أن أغلب بياناته تحريضية، أو أنها تنتهي إلى التحريض. وهذا وأمثاله هم كمن يتعهد الأرض بالحرث والسماد وكل متطلبات التجهيز، ليأتي دعاة الإرهاب فيجدوها جاهزة ليبذروا فيها بذورهم، كما سبق وذكرت في مقال سابق؛ هذا فضلا عن أن فتاوى هذا الشيخ هي بكل المقاييس تنم عن رؤية متشددة، ومتحجرة، ومحدودة الأفق، وقاصرة عن مواكبة العالم المتحضر.
وهناك شيخ آخر أرفع مكانة علمية وعملية من هذا المدرس المتقاعد، دأب في المدة الأخيرة على إسداء النصيحة لولي الأمر، ونشرها (علنا) على موقعه في الإنترنت. ولا أدري هل ممارسة الشيخ هذه تعني أنه (عملياً) رجع عن قوله بأن الأصل في مناصحة ولاة الأمور (السرية) كما كان يقول سابقاً، أم أنها لا تعدو أن تكون زلة العالم؟
ومهما يكن الأمر فإن هذا الشيخ وزميله إن كانوا يظنون أن ذاكرة الناس ضعيفة، لذلك مارسوا ما كانوا ينكرونه على غيرهم بالأمس، فإنهم واهمون.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم أرسلها إلى الكود 82244