اليوم جاءني صوت هديل الحمام عبر نافذتي وأنا اغسل وجهي استعدادا للاستيقاظ... أين يمكن أن نلتقط هذا الصوت في بيئة قاحلة كهذه؟؟؟ حاولت الوقوف على أطراف أصابعي فوق المغسلة وتتبع الصوت من خلال النافذة ورأيت الاثنين يرقصان في حبور على أرضها يلتقطان فتاتا ربما تكرمت هذه الرياح الحارة بالقائها في وجهيهما..
ظلا يرفرفان بجناحيهما السفليين في حبور ويقومان بنصف دورة في داخل مساحة النافذة الصغيرة.... ابتسمت... أيها العالم ما أجملك!!
كل هذا الجفاف.. كل هذه الحرارة الخانقة.. والطبيعة هي في النهاية من يمنحنا القدرة على االتأمل والاستمرار...
استعدت ذكرى منزلنا الدافئ في ولاية فرجينيا عام 2003.. كان بسيطاً وجميلاً بوقوعه في قلب غابة كبيرة يمتد اخضرارها نحو الأفق وتتناثر الطيور والحشرات والغزلان الشاردة في أنحائها. ولأنهم هناك لا يعيشون قلق عزل (أهلهم وتغطيتهم) عما يحيط بهم من طبيعة وناس... لذا يقف الباب الزجاجي الخلفي الكبير حاجزا ضد الرياح والمطر وكاشفا لكل أوجه الجمال المحيط، ولأني نجدية تفتقد الخضرة والمطر والطيور.. كنت اجلس بكأس قهوتي الصباحي داخل الصالة وامام هذه الغابة الغناء أتأمل كل ما يعبر.. ووجدت أننا كبشر وكما خلقنا الخالق نصبح أكثر قرباً من ذواتنا حين نتيح لأنفسنا لحظات تأمل مع الطبيعة دون تدخل البشر أو شؤون العائلة أو الصغار أننا في الحق نصبح أقل شراسة وأكثر ايجابية في رؤيتنا وتقديرنا لما حولنا من أمور ونواقص هي في النهاية جزء مكمل لطبيعة ساحرة صاغها الخالق بتفوقه وابداعه.
تأمل تفاصيل الطبيعة وتراكماتها (الشجرة التي أمامي كانت تبلغ من العمر 89 عاماً) ولحاؤها الثقيل يبدو كاشفا عن عالم عميق من الخبرة والبشر والجمال كتب له أن يتراكم عبر الزمن لأكون أنا وامثالي قادرين على الجلوس في ظله والاستمتاع برائحته ولمسه ودراسة عوامل تكوينه.. كانت ريما الصغيرة تقفز في حبور حافية على أرض الحديقة الخلفية التي كانت جزءا من هذه الغابة العامرة وتلتقط دون وجل الديدان الصغيرة على الأرض وتتأملها دون خوف أو (قرف) كما يحدث هنا ونتحدث عن تكوينها وما تلعبه ضمن الدورة الطبيعية للمخلوقات التي تتكامل في وظائفها وأسباب وجودها لتخلق لنا هذه الطبيعة الغناء..
ما الذي حدث هنا؟؟؟ ولماذا اختفت كل بساتين صياح العامرة في الرياض والتي كانت عائلتي وغيرها من عوائل الرياض تتمشى فيها ولماذا تقلصت مزارع القصيم والأحساء والقطيف وتبوك والجوف لصالح زحف المدن بكل تعرجاتها وقبح مساكنها وضعف بنية هندستها اضافة إلى عدم تناسقها العمراني أو ألوانها...
هل أنا الآن أكرر كلاما حالما يكتبه في العادة هؤلاء الكتاب (غريبو الأطوار) وسيكتب في هذه الجريدة ويطوى مع نهاية النهار؟؟؟ لا. إنني أتحدث عن الانفصام الخطير الذي أحدثه سوء التخطيط العمراني في مدننا صغيرها وكبيرها والتهم معها كل جمال طبيعي أمامنا ليخلف لنا فقط هذه البنايات العشوائية وهذه البيوت الصغيرة والكبيرة المتنافرة في كل شيء والتي تفتقد سمة أساسية وهي حفظ توازن وجودها مع الطبيعة سواء كان بحراً التهمنا حدوده وردمناه ولازلنا لصالح أصحاب المال أو كان بساتين متناثرة في قلب القرى والأحياء غيبها زحف المدن القبيحة أو كانت أبنية تاريخية قديمة يطويها اليوم الرغبة في مزيد من المال والتملك دون توقف أمام قيمتها التاريخية والتراثية.
كيف حدث أن ولاية كبيرة كفرجينينا وهي التي لا تبعد عن واشنطن دي سي (كنت استخدم سيارتي عبر الخط السريع ذهاباً إلى جامعة جورج تاون التي تقع في قلب العاصمة الأمريكية ولا يستغرق الأمر أكثر من عشرين دقيقة) أي ما يوازي ثلث الوقت الذي أقضيه الآن وأنا أحاول الوصول إلى مركز الدراسات الجامعية بعليشة حيث أعمل متنقلة من بيتي في الشمال إلى الجنوب!! وكان كل ما يواجهني حتى في هذا الطريق السريع هي غابات من الجمال والأشجار.!
نعم.... الطبيعة ونسبة المطر كلها عوامل محفزة لتكون البيئة ثرية وخضراء. كما هي لديهم. لكنها ايضا الاستراتيجيات الواضحة والقوانين الحكومية التي تراكمت عبر الزمن ثم هو هذا الوعي الشعبي العام الذي تراكم ليشكل الدعامة الرئيسية والتنفيذية لأية سياسات حكومية. انها هذه الشفافية القانونية والحكومية التي لا تسمح أن تلتهم الأراضي والغابات لصالح الأبنية الاسمنتية ولصالح الشركات الكبرى ومصالح ونفوذ ونقود من يصنعون القرار..
كيف حدث أن تحولت مدننا إلى غابات من الاعتداءات السافرة على ما كانت تحويه هذه الأرض من خضرة وطبيعة بسيطة جاهدت عبر السنين ورغم قسوة المناخ لتستمر وترطب مساءات قرانا وواحاتنا واين هو نخيلنا الذي كان يتناثر في عشوائية على سطح الرياض والأحساء والقطيف و....و.... إلى ما لا نهاية من مدننا الخاوية اليوم إلا من أبنية قاحلة متنافرة.
العلاقة مع الطبيعة والقدرة على تأمل الفروقات التي أوجدها الخالق فيها والاستمتاع بألوانها وأحجامها كلها عوامل أساسية لاحداث التوازن النفسي والعقلي للانسان حتى يكون في سلام مع نفسه والآخرين وحتى يتمكن من ترويض مشاعر رجل الصحراء الجاف الذي اعتاد التعامل مع الطبيعة من خلال نافذة البقاء والاستمرار مما ولد ثقافة تراكمية حادة لا مجال لتهذيبها وترويضها إلا من خلال الطبيعة.. ولذا فإني لأغبط أكثر ما أغبط حين اسافر وارى هؤلاء الصيادين في المدن الساحلية أو على حواف بعض البحيرات الكبرى في أوروبا أو أستراليا والذين يرمون سناراتهم في البحر ويبقون في تأمل وسكون وصبر حتى تتحرك صناراتهم إيذانا بصيد قادم بل ان البعض منهم يعيد السمكة لعالمها، فالفكرة بالنسبة لهم ليست في الصيد قدر ما هي في التأمل والعودة للذات مما لا تتيحه حياة المدن الكبرى.
ما الذي يمكن لأي منا أن يفعله في مدينة كالرياض أو جدة أو غيرها من هذه المدن المتناثرة ليستعيد علاقته الطبيعية بالطبيعة؟؟ كيف نستعيد علاقتنا بدواخلنا ونهذب كل هذه القسوة والحدة والتأزم والسلبية إذا كان البحر قد تم امتلاكه والبساتين اغتيلت وسرقت أراضيها لصالح أصحاب المشاريع والقرى فرغت من مزارعيها الذين لا يجدون مع عائلاتهم ابسط الخدمات الصحية والتعليمية فاضطروا للهجرة للمدن الكبرى لتختنق باعدادها وبأبنيتها وقبحها وليخلفوا وراءهم عالما من الطبيعة والجمال والسلام كان قادرا على حفظ تواجد آبائهم وأجدادهم على هذه الأرض لمئات السنين؟.