Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/07/2008 G Issue 13065
الأحد 03 رجب 1429   العدد  13065
براءات الاختراع العلمية استلاب حقوق أصحاب الحق الطبيعي
عبدالله الماجد

هذه صورة من صور الحرب، ليس فيها ملامح الحرب العسكرية التقليدية، لا صواريخ ولا طائرات ولا ناقلات جنود أو دبابات، ولكنها حرب حقيقية، هي من معطيات هذا العصر، وتنوع وسائل السيطرة والهيمنة - أبرز ملامحها - سيطرة القوة في مواجهة الثقافة, التي هي أبرز ملامح البشر على مختلف مكوناتهما الثقافية.

هذه الحرب, تظل الحقيقة الماثلة الآن, في هذا العصر, والتي تبرهن على أن ثقافة إنسانية قديمة، تأكدت لتكون أزلية؛ تؤكد تسيد القوي، وتبرز شريعة الغاب ليس بأنياب، ولا مخالب، ولكن بوسائل أقرب مشابهة، بل أشد فتكاً، وأقصى دهاءً وعقلاً.

ينحاز هذا الموضوع إلى تلك الأصوات، التي ارتفعت في وجه القرصنة المعلنة، والمقننة، في صورة (براءات الاختراع العلمية) التي خصص لها قانون حماية الملكية الفكرية( TRIPS) جل مواده التشريعية، بعد قيام منظمة التجارة كهيئة دولية, ملزمة لمعظم الدول التي انضمت إليها، وحتى تلك التي لم تنضم, خصوصاً تلك البراءات التي أخضعت موارد الدول الطبيعية للاحتكار, وجعلت تنوعها الحيوي من النبات, احتكارًا لشركات خارج نطاقه الجغرافي, كما لو كان استعمارًا جديدًا, ولكن بوسائل جديدة.

ولمن لم يتمكن من متابعة المقال السابق في الأسبوع الماضي، حول هذا الموضوع، سوف أتذكر معه، فكرة موجزة عن (التربس) حقوق الملكية الفكرية. نشأ هذا الإطار القانوني لتدعيم براءات الاختراع، وإدراجها ضمن ما يسمى بحماية حقوق الملكية الفكرية، التي تم تداول مناقشاتها وإقرارها في الاجتماعات التي تمخضت عن إعلان قيام منظمة التجارة الدولية ابتداءً من عام 1986 وحتى إعلان قيام المنظمة عام 1995, وبمجيء عام 2000 أصبحت تشريعاتها ملزمة للدول التي انضمت إليها، وتطبيقها في التعامل مع تلك التي لم تنضم إليها، وقد حدد اتفاق (التربس) سبع مجموعات تسري عليها حقوق الملكية الفكرية هي: براءات الاختراع، التصميم الصناعي، العلامات التجارية، المؤشرات الجغرافية، التصميمات التخطيطية, الرسوم الطبوغرافية للدوائر المتكاملة، المعلومات السرية أو الأسرار التجارية، حقوق التأليف، وتشمل الحقوق الأدبية والفنية والموسيقية والفوتوغرافية، والأعمال السمعية والمرئية.

وقد ثارت موجة احتجاجية عارمة، صارخة، في مواجهة هذا القانون (الفرمان) صدرت عن أصحاب الحق الطبيعي، فيما يتعلق ببراءات الاختراع، التي تمنح لمن ليس له حق؛ الحق في استلاب حقوق أصحاب الحق الطبيعي، وإخضاع التنوع الحيوي، على أنه اختراع تكنولوجي حيوي, أو مركب ديني، وعبر سنوات كانت الشركات الكبرى تجري أبحاثها في مجالات شتى، على أنواع عديدة من النباتات التي تجود بها أراضي بلدان وهبها الخالق طبيعتها تلك، وجزء كبير من تلك النباتات هو مجال حيوي لإنتاج الأدوية، وجزء كبير منها يستهلك في الغذاء. وتعتبر الدول الحاضنة لتلك النباتات أنها مجال حيوي، تم تطويره على مدى قرون، وأنه لا يصح أن يكون ملكية لشركات بعيدة عن مجاله الحيوي. وإلا أصبح ذلك نوعاً صريحا على القرصنة، وأسلوباً من أساليب الاستعمار تحت مسميات أخرى.

كان الاستعمار القديم، يأتي إلى مناطق النماء الحيوي، بخيوله وسفنه، وطائراته ويفرض القوة في التحكم بموارد تلك الشعوب في مناطقها الغنية, أما الآن فإنه يأتي بمنطق القانون، وفي ظل العولمة عابرة القارات. أكثر من 114 منظمة شعبية وطنية، و68 مجموعة أخرى من المنظمات, المؤيدة لها أعدت تقريراً مشتركاً, في مواجهة تعنت اتفاق التربس، المتعلق ببراءات الاختراع، وتطبيقها على الموارد الحيوية، كما لو كانت موارد آلية أو اختراعات صناعية، يخالف طبائع هذه الموارد، ذلك أن المعرفة الوطنية والميراث الثقافي، تطورت عبر نشاط اجتماعي متنام، على مر العصور وتعدد الأجيال، إن اكتشاف النباتات الطبيعية أو تطوير البذور أو الكائنات الحية، لا يقع ضمن الاختراع أو الاكتشاف أو حتى الإبداع، لأن الواقع يثبت أن تلك الموارد، يتم تطويرها واكتشافها ضمن منظومة إنسانية متعاقبة على مر العصور والأجيال.

قضية السيطرة على منتجات الدول النامية، من نباتاتها الطبيعية، عن طريق نظام براءات الاختراع، وهو نظام قديم ابتدعته المؤسسات الاستعمارية لإحكام السيطرة على ما تدعيه اكتشافات إبداعية، يرتبط باعتبار البراءات ملكية فكرية احتكارية، والحقيقة أن تاريخ البراءات، منذ بدايته، تلوث بهذه الأهداف الاحتكارية والاستعمارية، حيث ارتبط بغزو الأراضي، ثم تطور إلى غزو الاقتصاديات, وهو في آخر الأمر إعادة لاحتلال مناطق النماء الطبيعي، واعتبارها حقاً بمجرد اكتشافها، أو اكتشاف تنوعها من النبات الطبيعي. تسوق (فاندانا شيفا) نبذة تاريخية حول براءات الاختراع على هذا النحو:

(ترتبط براءات الاختراع، تاريخياً، بالاستعمار، حيث كانت تستهدف غزو الأراضي من قبل الأوروبيين؛ أما الآن، فهي تهدف إلى غزو الاقتصادات, ومن ثم يثير منح البراءات الكثير من النزاعات المعاصرة, ففي حين يُنظر إليها على أنها أدوات لإعادة احتلال العالم الثالث، تعتبرها القوى الغربية حقاً طبيعياً، كما كان الحال بالنسبة للغزو في زمن الاستعمار, وتوجد بطبيعة الحال فروق بين استعمار الأمس وإعادة الاستعمار اليوم. فلم يعد الدين هو المبرر النهائي لغزو اليوم, فإعادة الاحتلال أصبحت لها ديانة جديدة هي ديانة السوق كمشروع علماني, ومن ثم لم تعد الأرض - الذهب والمعادن - هي موضوع الغزو، بل الأسواق والأنظمة الاقتصادية, فالمعرفة ذاتها أصبحت تُحوّل إلى ملكية، كما كان الحال بالنسبة للأرض أثناء الاحتلال. ولعل هذا هو السبب في أن براءات الاختراع اليوم, أصبحت محمية تحت مسمى أكبر هو الملكية الفكرية, أو الملكية بمعنى ثمار العقل).

وواقع الحال أن استعمار اليوم، يتجسد في هذه الشركات العملاقة، التي تندمج مع بعضها، وتشكل احتكاراً يسيطر على إنتاج المواد الأولية، حيث سبقت أصحابها الحقيقيين، وتمكنت في ظل قانون البراءات وحماية الملكية الفكرية، من تسجيل براءاتها الاحتكارية عليها، فحين توفر أراضي البلدان النامية، أكثر من ثلثي السلالات النباتية، يقدر حوالي 35 ألف نوع على الأقل منها له قيمة علاجية مؤكدة، وحوالي سبعة آلاف مركب دوائي، مما تنتجه مصانع أدوية الغرب، مستمد بشكل أصيل من هذه النباتات. ونتيجة لتعاظم وضع الشركات نتيجة لتكتلها، أصبحت تسيطر على معظم الإنتاج في مجال علوم الحياة، فنجد كمثال أن صناعات الأدوية والغذاء، والكيماويات، وأدوات التجميل، والطاقة والبذور، تسيطر عليها أكبر عشر شركات في كل صناعة، على 32 % من صناعة البذور، وبلغت قيمتها 23 بليون دولار، و35% من صناعة الدواء بما قيمته 297 بليون دولار، و85 % من صناعة المبيدات الحشرية، مما قيمته 31 بليون دولار (الشركات الخمس الأولى في مجال التكنولوجيا الحيوية الزراعية (Astra Zeneca, Aventis, Novartis, Monsanto, Dupont) تمثل 60 % من السوق العالمية للمبيدات، 23 % من سوق التقاوي وتقريباً 100 % من سوق البذور المهجنة (هور، الملكية الفكرية، ص 32).

وفي مجال التسابق على حصد البراءات، تم في نهاية عام 2000 منح براءات اختراع لأكثر من 500,000 سلسلة دينية كاملة وجزئية في الكائنات الحية. وبحساب ما أورد, مارتن هور في كتابه (الملكية الفكرية.. التنوع البيولوجي والتنمية المستدامة حل المسائل الصعبة) فإن ما يزيد على 9000 براءة تم منحها أو البت فيها وهي تحتوي على 161,195 جيناً بشرياً كاملاً أو جزئياً، وذلك في أوائل نوفمبر 2000, واتسمت الزيادة في هذه الطائفة بالضخامة, حيث كان العدد في الشهر السابق 126,672 فقط, أي أن الزيادة في شهر واحد بلغت 34,500 أو 27%، وكانت بقية الجينات التي تم منحها براءات اختراع أو كانت محل نظر, تتعلق بالنباتات، الحيوانات وغيرها من الكائنات, (هور، ص 38).

نتيجة لذلك، تصطدم برامج البحث العلمي، في الدول النامية، صاحبة هذه الحيازات الطبيعية، بهذا السباق، الذي لا تستطيع أن تجاريه أو تلاحقه نتيجة لعوامل كثيرة، أهمها أنه لا يتم تطوير وسائل البحث العلمي في هذه الدول، وحسم السباق في كثير من المسائل العلمية لصالح الدول الأكثر تقدماً، والتي تحجم عن مد العون لتلك الدول، عن طريق بناء مراكز للبحوث العلمية فيها، أو تساهم في وسائل نقل التكنولوجيا إليها، مع أن بناء التكنولوجيا في أماكنها أكثر فائدة من تصديرها. لقد تم تحكيم ما يشبه شريعة الغاب في هذه المجالات، لابد على الدوام أن تكون هناك فريسة، للأقوى صاحب الأنياب. في بلد بحجم الهند-وهو الضحية الكبرى لنهب موارده الحيوية- تاريخياً هو صاحب التاج، فيما تجود به أراضيه، من نباتات وأعشاب طبية، فعلى مرّ العصور كانت الهند، مستودع التوابل، وصيدلية مفتوحة لفنون وعلم الدواء ومصدره الأكبر، ولذلك كان قانون البراءات الهندي، على وعي بهذه الحقيقة، التي تؤكد أن المعرفة البشرية المتنامية على مرّ العصور، شائعة كشيوع النباتات وتنوعها في مهاد الأرض الهندية. لذلك، فإنه وفقاً لقانون عام 1970 لا يجوز إبراء المنتجات الزراعية أو الطبية لإنهاء حق مُشاع لتلاقح المعرفة البشرية الشاملة في هذا البلد. ولم يكن العيب في هذا القانون، ولكن الجرم الواضح، هو في القرصنة والنهب الآتية من الخارج في شكل براءات اختراع، على شيء لم يخترع ولم يبتكر. ومن الأمثلة الصارخة على هذه القرصنة، المُجللَّة بوقار القانون المفتعل, ما حصل لنبات مشهور في الهند اسمه (النيم Neemu أو Azadirachta).

فما حكاية شجر (النيم) الهندي؟. في كتابها (حقوق الملكية الفكرية حماية أم نهب) تفرد السيدة (فاندانا شيفا) صفحات للحديث عن هذا النبات، وتعتبر ما حصل بحق هذا النبات، هو تكرار لنوع من الاستعمار الذي استعمر المقاطعات الهندية، ولم يعبأ، بممارسات الفلاحين والأطباء الهنود. فهذا النبات الذي يستخدمه الهنود, في مجالات متعددة في التداوي, وكمبيد حشري طبيعي منذ ألفي سنة، وينمو هذا النبات في كل مكان من الأرض الهندية، على نحو أكسبه طقوساً اعتبارية لدى الهنود، امتزج فيها بالقيم المتعلقة بثقافة ما عرف بالنيم، وأهميته الطبية والزراعية، ويوجد أكثر من خمسمائة ألف شجرة نيم على طريق الحجاج إلى مكة المكرمة، ويعد الهنود هذا النبات رمزًا لحرية تبادل المعرفة، ويشار إليه على أنه "الشجرة الحرة في الهند", هذا النبات يخضع أسيرًا لما يزيد على 90 براءة اختراع، لشركات أمريكية ويابانية وألمانية. وتعود قصة التعرف على هذا النبات إلى وقت متأخر- في حين كان الهنود يستعملونه منذ آلاف السنين- حيث لاحظ مستورد أخشاب أمريكي أهمية هذا النبات في الهند، فبدأ يستورد بذور شجر النيم ثم أجرى اختبارات تتعلق بالأداء، والأمان لمبيد حشري، مستمد من النيم يعرف باسم Margosam-o، وفي عام 1985 حصل على تصريح للمنتج, من الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، وبعد ثلاثة أعوام قام ببيع البراءة لشركة كيماويات متعددة الجنسيات، وتم الحصول على 12 براءة اختراع أمريكية منذ ذلك العام, بواسطة شركات أمريكية ويابانية, عن وصفات لمحاليل ومستحلبات، وكذلك معجون أسنان مستمد من نبات النيم. ومما أدى إلى انهيار الصناعات المحلية، قيام تحالف مشبوه لمشروع مشترك, مع شركة محلية وشركة أمريكية, أقام مصنعاً في الهند، يستهلك يومياً حوالي 20 طناً من البذور. وعن الأثر الذي أحدثه شجر النيم، في صناعة المبيدات الحشرية، تقول فاندانا شيفا:

(قام المجلس الوطني للبحوث في أمريكا عام 1992، بنشر تقرير استهدف فتح أعين الشركات الغربية, على المنتجات المتنوعة اللانهائية, التي يمكن لشجرة النيم أن توفرها, وقال أحد أعضاء هذا المجلس (إنه في هذا اليوم والوقت، الذي لا نشعر فيه بالسعادة حول المبيدات الحشرية الصناعية تمثل شجرة النيم ملجأ عظيماً). إنه ملجأ تجاري على نحو صارخ, إذ تبلغ قيمة سوق المبيدات الحيوية حوالي 450 مليون دولار، ويقدر أن الرقم سيقترب من 800 مليون دولار أمريكي بحلول 1998).

وإزاء هذه "القرصنة الحيوية" قامت حوالي 200 منظمة بمقاضاة الشركة الأمريكية، على براءتين، واحدة في أمريكا، والثانية في أوروبا" وفي عام 2000، أمكن التحرر من هذه القرصنة، حيث أقر مكتب البراءات الأوروبي، بأن البراءة المملوكة، على نحو مشترك من قبل الحكومة الأمريكية، شركة W.R.Grace تقوم على قرصنة المعرفة القائمة، وتفتقر إلى الابتكار والإبداع.

وتخضع الأعشاب والنباتات الهندية- على وجه الخصوص- لنهب مستمر، من مراكز البحوث العلمية الخارجية - غير الهندية - لاستخلاص أدوية علاجية منها، دون اعتبار ما للمصدر، حيث لم يتم دعم إنشاء تلك المراكز, على أراضي المصدر الرئيسي لتلك الأعشاب والنباتات، وإنما استلابها والاستيلاء عليها، وبناء صناعات دوائية عليها، ثم يتم تصديرها مرة أخرى للمنبع بأسعار باهظة ويعرف أجدادنا في نجد نباتاً هندياً يعرفونه باسم (العشبة) إشارة إلى العشبة الهندية، يستعمل لعلاج أمراض الكبد. وتشير (فاندانا شيفا) إلي هذا النبات المعروف باسم Phyllanthus Airuri وفي اللغة الهندية باسم Uaramla، بأنه- وعلى الرغم من اكتشافه في الهند ومنذ سنوات طويلة، بل إنه دخل وفق النظم الهندية في العلاج، والعادات الشعبية، في استخدام هذا النبات لعلاج عديد من الأمراض الشائعة، كالتهاب الكبد، واعتلال الصحة، فإنه الآن يخضع لنوع من القرصنة, ومحاولة احتكاره من قبل مركز الفوكس للسرطان التابع لجامعة فيلادلفيا في أمريكا للحصول على براءة لاستخدامه في علاج التهاب الكبد الفيروسي (B) وتعلق السيدة (فاندانا) على تلك الممارسات التي تقوم بها مراكز علمية غربية، لاستلاب حقوق أصحاب الحق بأنها, تُعد مثالاً واضحاً على القرصنة الفكرية، مقترنة بغطرسة تستند إلى أن الموارد تصبح قيمة مضافة، حينما يتم تصنيعها في المعامل الغربية. ويؤثر مثل هذا التصرف سلباً على إمكانية تصدير تركيبات من هذا العلاج من قبل الشركات الهندية التي تلبي متطلبات نظام العلاج في الهند.

هذه الثقافة الاستعمارية الراهنة, تقول, إذا كان لديك ثروات طبيعية, تنوع حيوي, نبات معادن وبترول, فأنت حارس عليها. ووسائل غزوها ونهبها, تقع ضمن خيارات, أخطرها الغزو العلمي عن طريق الاستحواذ بمنطق قوانين البراءات والحماية والتجارة الحرة, وإذا لزم الغزو العسكري؛ فهو خيار مطروح كما نشاهده ونعيشه.



E:marspub2002@yhoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد