شكَّلت الثقافة بمعانيها، وروافدها، ومقاييسها، وسبل الوصول إلى تجسيدها وتحقيق بعض جوانبها، الهدف الطليعي الأول لمؤسسات المملكة الثقافية الرسمية والمدنية، التي وضح تحول سيرها بصورة إيجابية مع إنشاء وزارة للثقافة بوجه خاص، جمعت تحت مظلتها مختلف المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، كالأندية الأدبية، والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وغيرها، ومثلت المرجعية المباشرة لتنظيم كثير من الأنشطة الثقافية كالمهرجانات الفنية، ومعارض الكتاب، إلى غير ذلك من المناشط المتنوعة، ولم يقتصر جهدها على ذلك وحسب، بل عمدت إلى تنشيط فعاليات الأسابيع الثقافية على المستوى الإقليمي والدولي، عبر إقامة المعارض الفنية الخارجية، وعرض العديد من الصور الفلكلورية الشعبية، وإقامة الأمسيات الفنية والمسرحية والأدبية، وغيرها، في العديد من العواصم العربية والإسلامية والعالمية، وهو ما غير حتما من ملامح المشهد الثقافي السعودي بشكل أو بآخر، وجعل مشهده الثقافي متناغما مع حقيقة تعريف مفهوم الثقافة بحسب ما اُتفق عليه في إعلان مكسيكو سنة 1982م من أنها تمثل:
(جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، التي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم، والمعتقدات، والتقاليد).
لقد عاش المشهد الثقافي السعودي ردحا من الزمن في حالة من الركود وبطء الحركة، جراء تشتت انتمائه المؤسسي، وانعدام الشخصية المؤسسية القادرة على أن تعكس ملامح الصورة الكاملة بكل جدارة واقتدار، ليس ذلك راجع إلى عجز أو قلة كفاءات من سبق ممن اهتم مؤسسيا بمواكبة الشأن الثقافي، ولكن بسبب انعدام المؤسسة الخاصة بذلك، وتبعية كل المناشط الثقافية لمؤسسة الشباب والرياضة، فكان مؤدى ذلك أن برز جانب على جانب، وكان الاهتمام بشق على شق، وهو ما جعل الشأن الثقافي يقتصر على جوانب محددة ذات صبغة نمطية، سرعان ما كانت نتيجته أن تفلت كثير من أبناء المجتمع من حولها، وأخذ الجزء المتبقي في التشكل ضمن سياقات ثقافية خاصة، عبر ما يعرف بالصالونات والمجالس الثقافية، التي شكلت رافدا رئيسا من روافد المعرفة خلال الفترة السالفة.
غير أن ذلك كله قد أخذ بالتبدل كما هو مشاهد وملموس، حيث أدركت المؤسسة السياسية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، أهمية تلافي عقبات هذا القصور الثقافي، وحقيقة أزمته المؤسسية بشكل خاص، فكان توجهها السياسي لإنشاء وزارة للثقافة بجانب وزارة الإعلام، تهتم بتفعيل ومتابعة مختلف تلك المناشط الثقافية، وتعمل على احتضان جميع الفعاليات والمؤسسات الثقافية ضمن أرجاء المجتمع السعودي، وتقوم بمتابعة وتسيير خطة العمل الثقافية المنصوص عليها في بيان مجلس الوزراء، والأهم أنها قد مثلت - بما تحمله من معرفة دقيقة لخبايا المشهد الثقافي - المرجعية القانونية والأدبية للمثقف السعودي على مختلف أشكاله وصوره، فكانت خلال المدة الوجيزة الحاضن الفعلي لمجمل الصور الثقافية ضمن جنبات مجتمعنا، وهو ما جعل المشهد متطورا عما كان عليه في مبناه ومعناه.
من جانب آخر فلم يقتصر المشهد الثقافي السعودي في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله على ذلك وحسب، بل تعداه ليأخذ بريقه العالمي، عبر تبنيه لقضايا وهموم الحوار، الذي أصبح هاجسا ثقافيا كبيرا لدى الكثير من رموز النخبة العلمية دينيا ومعرفيا، التي تكاثفت اجتماعاتها سنة بعد سنة، وموسما تلو موسم، لتناقش جوانب وأدبيات الحوار مع الآخر والانفتاح على أفكاره وثقافاته، وتجسد ذلك ابتداء بمهرجان الجنادرية الثقافي، وعبر العديد من المؤتمرات التي تبنى تنظيمها مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالحرس الوطني، ومن خلال ما تقوم به مؤسسة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، مرورا بجهود دارة الملك عبد العزيز الثقافية والعلمية التي حرصت على تنظيم عدد من اللقاءات العلمية المنفتحة على الآخر، ومؤسسة الحوار الوطني التي عقدت للأمر نفسه العديد من الجلسات واللقاءات الدورية، وصولا إلى مؤتمر مكة المكرمة للحوار بين مختلف الطوائف الدينية والمذهبية الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي تلبية لنداء خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله الشهير، الذي أثمر عن بروز وثيقة مكة المكرمة لتنظيم العلاقة مع الآخر، وتبيين سياقات الحوار معه وأدبيات ذلك.
وفي تصوري فقد أدى ذلك كله إلى بداية نماء حالة ثقافية متجددة ضمن جنبات ذهنيات أفراد مجتمعنا، يكون مؤداها نتيجة، الوصول إلى إشاعة ما نصبو إليه من ثقافة المثاقفة الهادفة إلى مواءمة عملية التغيير والتطوير الثقافي الطارئ على مجتمعنا، جراء حميمية التواصل والتفاعل، مع السائد الثقافي المحلي، فيكون لذلك أثره الإيجابي على مجمل الأنماط الثقافية الأصيلة، التي تهدف - وفقا لذلك - إلى استثمار ما لدى الثقافات الأخرى من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة، وهو ما سيؤدي حتما إلى تنمية مختلف الكيانات الثقافية بشكل خلاق من جهة، وغير مضر بمقومات هوية وثوابت كل جماعة على حدة، فضلا عما يمكن أن تعكسه تلك الحالة الإيجابية من روح الثقة والتسامح بين الأفراد والجماعات، إذ انها ستزيل كثيرا من الأوهام، وستساعد على تفعيل القواسم المشتركة بين مختلف الأطياف، الأمر الذي سيخفف من حدة التوتر وسلبيات العداوة البينية، التي عادة ما يغذيها الجهل بالآخر، والإيمان بما تكوَّن في الذهنية من أحكام سلبية مسبقة.
وبذلك فإن شيوع ثقافة المثاقفة في أي مجتمع بصورتها الإيجابية، البعيدة عن ملامح الاقتباس الكلي والاستعارة العمياء، ستوفر مساحة كبيرة لنماء ثقافة إيجابية أخرى، وهي ثقافة نقد الذات، التي تدل على مبلغ ودرجة الوعي بذواتنا، الذي لن يتأتى إلا من خلال بعث حركة نقدية بينية شاملة، تستهدف توفير الكثير من وجهات النظر في مختلف المسائل والقضايا، التي يجب ألا تقتصر على إبراز العيوب والأخطاء وحسب، بل وتهتم بالكشف عن مساحات الصواب والجمال في مختلف مناحي حياتنا أيضا، بأسلوب علمي ملتزم بقواعد الحق والإنصاف، والتحلي بالأدب والأخلاق الرفيعة، وحينها سنتمكن من إشاعة حالة النماء الثقافي في صورتها الإيجابية، ومن إعادة قراءة تراثنا القراءة الواعية القادرة على استشراف المستقبل ومتابعة تحدياته، والأهم قبل وبعد ذلك، هو التمكن من تنمية قدرات أجيالنا الثقافية بكل بصيرة وتبصر، وحول ذلك تكمن بؤرة تحولات مشهدنا الثقافي خلال هذا العهد الميمون.