أكدت لها أن لغة التفاهم تتجاوز أبجدية الثمانية والعشرين حرفاً...
ربما الدليل هو أن اللغات الأخرى تختلف حروفها ووقع مخارجها.. ومع ذلك نفهمها طالما نتقنها...
اللغة أيضاً غير الحروف... فكل ذرة في الكون لها لغتها... وأكدت لها أننا يمكننا مثلا أن نتفهم كل اللغات إن شئنا أن نمتزج وأن نخلص... ومن ثم أن نكون....
وحين أشرت إليها بحركة اليد والعين والجبهة والحاجب في جسد الإنسان وما إذا كانت تفهم ما يعنيه الرأس حين ينخفض ويرتفع أو يتجه يميناً ويساراً أو بسرعة يصدر حركات متتالية على جانب منه، فأكدت لي أنها ليست (غبية) وأنها حتماً تفهم من تلك الحركات معنى الإيجاب والرفض والتنبيه بالرفض... ثم أضافت لي: وأفهم تماماً أن صديقتنا هناك ترغب في المغادرة وهي تمد يدها لأشيائها تدسها في حقيبتها... انظري إنها تتحرك للنهوض... ولم أجهل رغبتها قبل قليل في كأس من الماء حين أشارت إلى فمها وحلقها بما يوحي بالعطش...
لكنني طلبت منها أن توقف سيل النماذج فما طرحتها إلا للتأكيد بأن أبجدية اللغة المتحدثين بها ليست كافية للتعبير...
لذا فيمكننا أن نسمي الأشياء بغير ما تسمى ونخلص في النهاية باشتقاق معان حديثة جديدة لكنها متفق عليها...
وحتى عندما لا نتفق عليها فلا أقل من الغوص في بحورها...
وأشرت إليها أن تتمعن في أبجدية المبدعين كيف يجعلون من المطر وردة ومن السحاب مرسولاً ومن المرأة حياة ومن القوة فداحة...
صديقتي سألتني : وهل للجنون معنى آخر حين أقول لك بإنني لا بد أن أهرب منك حين تجتاحك اللغة...؟
لكنني فهمت أنها لن تذهب بعد أن مدت يدها لنسخة فوق مكتبي من آخر قصيدة لمحمود درويش (لاعب النرد)
وبصوتها تقرأ:
(أَنا لاعب النَرْدِ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات...)
وفيما هي كذلك كنت أقرأها بأبجديتها التي هي خارج الثمانية والعشرين حرفا.