شهد اليوم الثاني من مهرجان الرياض الأول للمونودراما المقام حالياً على مسرح كلية اليمامة والذي يستمر حتى يوم السبت, مسرحيتين جاءت المسرحية الأولى بعنوان (الصفر واحد) مقدمة من المكتب الرئيس للجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في الرياض, وهي من تأليف وتمثيل الفنان عبدالله الحمد, وإخراج الفنان أسامة خالد, الجو العام لمنودراما (الصفر واحد) كما يقول مؤلف العمل الفنان عبدالله الحمد: (هو فراغ كبير ملفوف بالصمت أو بالموت.. فراغ جدرانه الكلمة.. وهو يخلو -معنوياً- من كل شيء إلا من مكعب زجاجي يتدحرج على وجوه عدة, ليظهر في كل مرة بقيمة لا تتغير رغم تعدد وجوهه.. هذا المكعب الزجاجي ينتظر فرصة للسطوع والرجوع لكونه تأثيراً يحكم الفعل في ذلك الفراغ المسرحي.. ينتظر أن يكون فاعلاً يُرفع بالضمة بشكل مهيب.. هذا المكعب كان كلمة في جملة ابتدائية في وقت ما.. وفي جيل ما.. وحان الوقت ليكون الخبر في سبيل إكمال جملته الصفرية المعقدة.. وكون هذا العمل ينتمي لمسرح المنودراما, فالممثل سيشكل فيه اللعبة الأم.. لينثر تداعياته الإنسانية التلقائية على هذا الفراغ المحكوم بمكعب القيمة الزجاجي.. ينثرها ساخراً وحالماً وباكياً وجائعاً ومشرداً.. ففعل الشقلبة والتحول والنزول والصعود في ذلك الفراغ العبثي لمكعب التأثير أثر -بطريقة ما- على طقوس العرض وتلون انفعالاتها.. فيقرر البطل الخروج من دائرة العبث هذه إلى مكان آخر يؤمن بأحد وجوه القيمة فيه.. ولكن للأسف يُصدم أو يعرف الحقيقة بأن التأثير مجرد دمية لأصابع خفية تتلاعب بالتأثير الذي قلب كل المعادلات القيمية في حياة الإنسان الوحيد على خشبة (الصفر واحد).
وبعد نهاية العرض الذي لاقى استحسان من الجمهور, عقدة الندوة التطبيقية أدارها المخرج سمعان العاني وبحضور مؤلف العمل عبدالله الحمد ومخرج العمل أسامة خالد, حيث قام بقراءة العمل نقداً الأستاذ محمد العثيم عضو مجلس إدارة الجمعية والمسرحي المعروف, وبدأ العثيم كلامه قائلاً: (الصفر واحد تقابل قيم في الهاجس الاجتماعي المكبوت, فالنص وكما هو متوقع من مثل هذه الأعمال مونلوج داخلي.. بمعنى تداعي لكنه ليس ملتفاً في حلزون ذاته، منكفئ عليها فهو يقاوم للخروج من الواقع، وبمزج حواري متخيل، وخطابية قاطعة أحيانا أخرى.. فنحن أمام الحالة التي ليست هي شخصية المعلم.. الذي يقفز من داخله أمامنا في محاولة الخروج وهو يردد النمط السائد في سبيل كيانه، وهو منذ البدء ومثل أي جسد مسكون يتلبس دور المعلم مسخاً هزلياً.. ثم يتداعى لنا ليصير هو المعلم رغم ما يفرضه داخله من تناقض على شخصه.. وأسلوب التداعي الذي نقرأه، أو نراه هو أسلوب تيار الوعي.. فنحن أمام مكنونات لا شعورية يشقى بها صاحبها في عالم الواقع، وتظهر لنا برموز المخزون بين المتقابلين (العاطفي والعقلي) وهو مخزون ينثال أمامنا بتدفق يفوق ذلك التدفق البطيء عند (جيمس جويس) فهو متوتر خالي من التفاصيل.. هو مثل الرموز الرقمية للأشياء التي يختزنها لا شعورنا ثم يلقيها لنا بالأحلام نثار نلتقط منه ما نلتقط، ويتسرب من (مشخل) الذاكرة الواعية ما يتسرب لصعوبة الترميز. لا جديد في أسلوب التداعي إلا الفكرة فنحن أمام طرح الطرف الأول:..العاطفة من خلال أستاذ، وطرح العقل من أستاذ آخر وطرح الهوية المفقودة بالممثل الأوحد.. والنص من الناحية الإجرائية كما أعده المؤلف القاص لغرض التمثيل هو نص مقتصد لا تمكن محاسبته، وحسب معرفتي بالأخ عبدالله الحمد من نصوص ترجمها، وألفها فهو كاتب جيد مأزوم بقضايا متوترة من حياة الفكر والمجتمع فهو أمام ذاته المفقودة كما يظهر في هذا النص الذي رأيناه اليوم مع استثناء بسيط هو أن لغة عبدالله المقتضبة في كثير من جملها قصرت عن الإيصال، وأحيانا لجأت لاشتقاق غير دارج ربما للترويح عن نفسها.
عبدالله الحمد ومنذ البدء يطرح الإجراء العاطفي على عباءة اللغة بصفتها رمز عاطفي متنامي، ينتثر من كيسه الملء ويملك قدرة جعل اللغة في صيغة من التحول المقصود والنمو.. ولكن هذا في نظري لم يدعم التحول الدرامي للشخصية في معاناتها.. فتسليم الحدث من مشهد لمشهد كان صعبا، ومفتعلا لأن عبدالله لم يهتم بهذا من جانبه (المليو درامي) اعتمادا على أن النص القصصي للعرض، وترك هذه المساحة لبراعة المخرج في ملئها بصفتها فجوات صامته أحيانا في النص المسرحي، وهي ميزة في كتابة المسرحية، ونقص في كتابة القصة، وكوني أتكلم عن النص أقول إن إعداد هذا النص للقارئ يحتاج لبعض الإضافات التي ملأها الصوت، والمنظر، فهو نص ليس للقراءة، وإنما للعرض.
في الجزء الأول من فكرة النص يشي الكاتب بلوم اللغة التي هي وعاء الفكر على جمودها عند حد تصنيم الأشياء واستحضار نموذج اللغة كان حيلة ذكية للخروج من محظور التقليدية الضاغطة، أو الدين، والمذهبية فنحن في عالم اللغة الجلي، واللغة رغم قداستها الوطنية، قابلة للناقشة بكل المفاهيم الممكنة ما لم تطالب بنسفها واستبدالها، وعبدالله في نصه المكتوب وليس المعروض لا يمس القدسية الترميزية للغة بصفتها مقدس، لكنه يرفض جمودها في البنية منذ البدء، ويرفض عدم المنطق في صياغتها المؤذية للهوية.
في التقابل القيمي مع اللغة يذهب النص إلى طرح المعادل العقلي من خلال الرياضيات الجامدة المجردة، ويختار الجبر الذي هو جبر القيم على الحياة بطريقة مرقومة.. وهذه نقطة أخرى في قوة عبدالله فهو لم يختر الحساب المهني المقفل، ولا الهندسة القابلة للتجميل، ولكنه يختار الجبر بصفته عقل مجرد يحسب رمزه ويعمم على معدوده، ومقيسه، والمجرد في المنطق الرياض منطقة متماهية مع نفسها بمعنى أنها خاضعة للاحتمالات في حل المعادلة بضبط الرمز وترك الرقم للتعيين.. مثلاً: (س) ضرب (ص) ناقص (ل) مرفوع للرقم أربعة.. قد يكون قانون ثابت لأشياء صحيحة لكن المجاهيل في الحروف المذكورة ليست بديهية تؤدي لنفس الشيء وإن أدت لنفس النتيجة التي هي حقيقة ثابتة في ما رمزت إليه.
إذا في النص نحن أمام متقابل اللغة غير المضبوط العدد، ونمذجتها العاطفية، وأما حقيقة المعدود العقلي.. وإلى هنا يأتي ما يريد عبدالله الانبثاق منه وهو الهوية في المعدود بين الصفر والواحد الذي صعد للمعدود.
وعبدالله في طرح الهوية يطرح نفسه في المحايد المهمل إزاء الأرقام ويتحدث عنها مثل موروث، ومكتسب لكنه لا يقرها كبنية فيزيولوجية فهو أو غيره بالمصادفات قد يصبح الواحد المفترض، فعالم الرقم المتصاعد فوق حيادية الصفر هو ديناميك العالم مع الناقص (من يملك ومن لا يملك) ولكن الصفر بينهما فراغ.
قبل الحديث عن العرض دعونا نقول عدة نقاط هامة.. أولها أن مثل هذا العرض لا يصلح على هذا المسرح لأن هذا المسرح يخلو من التجهيزات في المقدمة مثل (الهرسات) العرضيات العلوية التي يفترض أن تحمل الإضاءة وأجزاء الديكور المعلقة، وكون العرض حدث بين وسط المسرح وأعلاه في العمق فقد بدا لنا نحن الجمهور أن العرض بعيدا عن متناولنا، وفقدنا شيئا من الحميمية المفترضة معه رغم أنابيب المضخات التي وضعها السينوجراف لتصب القضية فوق رؤوسنا، ورغم أنه فتح لنا بابا من شروط الملحمية بخروج الممثل عن العلبة في مسرحية منودراما، أحسب أن أي مختص في هذه الصالة الآن كان يتمنى أن يرى هذا العرض على مسرح دائري، أو مسرح طولي بين الجمهور لتحقيق الحميمية التي فقدناها ببعد العرض عن أبصارنا ومسامعنا في عمق المسرح، ولكن ما دام العرض على هذا المسرح فإن التعامل معه يجب أن يكون كما هو، وليس بالضرورة كما نتمنى، ونريد فهو عرض جديد، ويحمل ملامح إخراجية متقدمة ويحتل مساحة تشبه الحلبة بين أنابيب التفريغ التي جعلتنا مصابين بالحدث، فأزمة البطل الحركية انعكست على نفسياتنا لأن التخيل قادنا إلى أنها مسرب الانثيال، وتلوين الصوت طرح بعد الشخصيات الهزلي في حكاية التداعي، أما الإضاءة فقد قدمت دون إسراف ولو أن المكان لم يخدم المخرج لكن هذا هو الممكن.
التمثيل:
من كون الكاتب هو الممثل فقد لاحظنا سيطرة تامة على النص فالممثل لم يكن يستجدي عباراته بل كانت بناء متقن مسيطر عليه بكل تفاصيله، وعبدالله بحركة الرزينة الموائمة للشخصية جسد الانبساط، والانفراج في الحدث بحركات مقتصدة، فهو لم يستجدي الحركة للمعنى بل عبر بجسده عن ما كتبه، وعبدالله من خلال عمله معي سابق يملك قدرات أكبر مما قدمه اليوم، ولكننا اليوم أمام مشكلة معروفة في الوسط المسرحي وهي الفنان المؤلف، فإمكانيات عبدالله التمثيلية يمكن أن تكون أكبر مما قدم في نصه لأن جدار اللغة أغراه عن التمثيل.
كنا خلال العرض أمام تحولات ثلاث الأولى في مرحلة القناعة النمطية بترديد الملقن، والثانية في ثورة العقل الذي تعاطى مع الكم الجبري، والثالثة في محاولة تلمس المكان المسيطر ثم ديناميكيته الحوارية من ثابت (أنا والآخر)، وكوننا أمام شخصية محايدة هي الصفر كان علينا أن لا نتوقع فعلا إيجابيا وكان المؤلف هنا مقتصدا في البقاء على حياده بين الناقص والزائد، ولكن نظر للواحد ولم ينظر للأسفل لبرى أن هناك اقل من الواحد.. ومن هذه النظرة الخاصة يطرح عبدالله شيئا خارج الوجودية التي عرفناها من خلال سارتر وهي الوجودية المبنية على مفاهيم الرباعية الكائنية (لشلر) وأقصد بها الكينونة بين الزمان والمكان، وأنت والآخر.. هنا يبدع المؤلف في كسر قاعدة وجودية صارمة، فهو فنيا، وتمثيلا الصفر وهو أيضا الصفر الكوني المطلق، والصفر المطلق هو العدم، أو ما يعرف بالثقب الأسود في فيزياء نظرية الكون، وهو بذلك يتجاوز بالسوء للشخصية الشخصيات المنخورة عند الكاتب الروسي تشيكوف التي كانت علامة في التاريخ الأدبي, وتجاوزه لها بالإنسان الصفر إبداع آخر يحسب له.
حقيقة أعذر العمل لظروف العرض، وأشد على يد أسامة خالد المخرج الذي عرفته متألقا في ظروف إخراجية أفضل من إمكانيات المسرح، واشد على يد عبدالله الزيد الممثل الذي أعرف من قدراته ما يفوق هذا العمل، ولكني أعتقد انه اليوم مؤلف نجم بفكرته المحايدة في عالم غير عادل.
فيما جاء العرض الثاني بعنوان (المعطف) مقدم من جامعة الملك عبدالعزيز, بإشراف عام من عميد شؤون الطلاب الدكتور عبدالله مهرجي, الإشراف الإداري الأستاذ أحمد زغبي, الإشراف والمتابعة الفنية الأستاذ عبدالله با حطاب, مخرج العمل الفنان محمد الجفري, تمثيل الفنان بندر عبدالفتاح, الإدارة المسرحية أثير زاهر, منفذ الصوتيات هارون المطيري, منفذ الإضاءة ريان فريد ثقة, تصوير فوتوغرافي يعقوب الغامدي, وعن العمل يقول المخرج محمد الجفري: (المعطف - عبارة عن نص مسرحي وقطعة أدبية تستثير بداخلك كل كوامن الإبداع وتدفعك بشدة إلى أن تتفاعل معها وتطلق المارد النائم بداخلك ليقول كلمته.. سواء كنت مخرج أو ممثل أو حتى لو كنت تجلس ضمن مقاعد المشاهدين, بل وستحدث نفسك خلسة أن ما يجري على الخشبة قد صادفني ذات مساء, وهذا العمل المركب بدقة ذو الشخصيات المتعددة والمكتوب بأسلوب أدبي بديع يجسد العديد من حالات المعاناة والعذابات التي قد نمر بها في مشوار حياتنا حتى نصل إلى محطتنا الأخيرة, وعندها سنصبح قطعة بالية عديمة الفائدة كل ذلك يحدثنا عنه معطف عجوز تجرع المرارة وهو يرقد على أكتاف مجموعة من الأشخاص كان رفيقهم في يوم من الأيام, وإذا كانت هذه هي معاناة معطف فكم هي قاسية معاناتنا نحن بني البشر, ولا تنتهي المعاناة إلا بنهاية الحياة.
وفي الندوة التطبيقية كانت القراءة النقدية للعمل مقدمة من الدكتور شادي عاشور عضو لجنة المسرح, حيث قال:
قد توصف الكائنات بالأناقة إذا تجلت في سمات وصفها ولكن من الصعوبة المطلقة إحالة جليد إلى كائن حي، كثيرون جدا دخلوا التجربة وحاولوا ولكن قليلون جداً من نزعوا كل الأقنعة المزيفة ونثروا أجزاءها الممزقة على ضفة نهر من الأمواج التقليدية غير المبررة وبعد عتمة الدهر عادوا إلى أطراف مدن الملذات وبكوا بتصوف بكوا بشدة بكاءً مسرحياً على خشبة هذه الحياة مرتدين الحيثية الفعلية كمعطف يقيهم صقيع الذكريات عندها ولد هذا العرض المسرحي وذاب الجليد بعفويته ليصبح العرض كائنا جميلا أنيقا وكأنه باقة ورود ليلك وأقحوان هبطت من السماء كي نحتفل بها نحن اليوم في هذا المكان.
الستار بتأويله الفلسفي لم يسدل الليلة في هذه المسرحية، فلم يكن موجدا من أصل الفكرة وكانت البداية والنهاية جزءا من الآن العليا التي تسكن عقولنا وإن كان لا بد من وجود ستار فستار عرض المعطف هو السماء لذلك السماء تحتفل الليلة دون أن نرى برقا ولكننا رأينا جسده والسماء تبكي الليلة دونما مطر ولكننا شاهدنا تعابير وجهه والسما تغني الليلة بعد أن سمعنا عزفه على الهارمونيكا لقد شاهدناه يرتدي معطفا من حاكه له محمد الجفري وارتداه هو بندر عبدالفتاح، فإذا كانت المونودراما هي مسرحية البطل الأوحد فاليوم هي لعبة مخرج ولو كنت عرافا لاعتقدت بأن روح الإبدا في المخرج قد احتلت جسد الممثل مثبتين معا بأن التكاملية في المونودراما مهي إلا تكاملية الممثل في أدواته وما يتجاوز ذلك من عناصر التجريب للوصول إلى التجلي في أدائية شمولية ملحمية شفافة.
النص كان أقل العناصر المسرحية تجليا رغم تجليه وفعل التجلي بعد اطلاعي على النص المكتوب كان الفضل في إنجازه إلى إعدادية احترافية بقلم مخرج مهووس، فقد كان قلمه غربالا حديثا أقصى من النص كل شوائب أدبية السجون في السردية الحوارية للمؤلف التي سمح بها حاجز الما بين الوعي واللا وعي بالانغماس في الخلفية الاجتماعية للكاتب دون علمه ولو لم تتم معالجة هذه المشكلة بواسطة المخرج بالطرق الاختزالية ترميما وبناءا والأهم هو احترافية دمج المرحلية الحوارية الدرامية في نسق درامي موجه إلى قلب الحدث فيما يسمى في المسرح الحديث interphasical interactive dramatic mixing and fixation والتي يعود الفضل في وضع فكرتها إلى أول نظريات فرويد وبالأخص النظرية التحليلية، ورغم المعالجة الحديثة للنص لم يسطع إلا أن يفرض على الممثل ما يسمى بالمونوتونية الحركة الانفعالية وخاصة على مستوى التطور النفسي للكاراكتر خلال مراحل المسرحية...
اليوم نستطيع الجزام بأن أيديولوجية التجلي المسرحي لا تمن في تكاملية العرض بل عن طريق تكثيف التنسيق العناصري ودمجه ومن ثم بثه عن طريق ماكنة مسرحية تسمى الممثل كمرحلة أخيرة يبدأ بها العرض...
الميلو تراجيدا اليوم تحولت إلى فانتازيا تلغي أي احتمالية للميثولوجيا رغم تشابه عروض كثيرة وروايات غربية عن المعطف، لذلك من المفترض أن ي دون على الكتيب أن المسرحية من إعداد محمد الجفري ولكن هذا أمر يعود للمخرج ولصلاحيته.
اليوم ولد ممثل جديد من أبطال أعدهم المخرج على مدى سنوات ليكون عبدالفتاح آخرهم، فقد تعرض لعملية استفزاز نفسية مؤلمة لتتطفو مكبوتاته المتوحشة غريزيا على السطح وتترجم أدائيا حتى تمكن من أداء ما شاهدناه اليوم، فلقد شاهدنا سينوغرافيا بمنظور جديد تجريبيا... فقد بدأت ممثل على حيز صغير من الفضاء المسرحي وانتهت بقرية كبيرة تضم إلى ساكنيها كل المشاهدين مع تلاحم الموسيقى المنبعثة ذاتيا مع الإضاءة التي أحياها جسد الممثل مع أدواته البسيطة جدا والتي هي قطع الديكور مما يعيدنا إلى زمن مسرح الشنطة وإن تقاربت المفاهيم مع اختلافات بسيطة.
ما رأيناه اليوم كان أيضا تجسيدا للمسرح الفقير فأوجد ديكوراً يستدعي جماركا على حدود المطارات أو مصمما ومنفذا ولم يحتج الممثل أو المخرج إلى فرقة موسيقية لتكوين معزوفاته التصويرية فلقد كان الممثل والفراغ المسرحي هما الإضاءة والموسيقى والديكور ومن منظور حرفي فقد طبقت الملحمية بريختيا مع مرتبة الشرف على مسرح مفتوح أو كما أسماه برادر ويلي مسرح الردهة أو اللوبي ثيتر بالإنجليزية... مع أن هذه الميزة أرهقت الممثل كما كان واضحا في أماكن قليلة من زمن المسرحية.
أداء الممثل بهذا المفهوم الشمولي يدل على مجهود إعدادي مكثف سواء على مستوى التمارين الحركية أو حتى السمعية والتدريب على النطق السليم.
الكلمات تقف احتراما لمثل هذه العروض وأختم قولي بأن الأوهام ترتدينا كمعطف حتى لا ندرك من هو المعطف نحن أم هم لنصبح كمسمار علق في دولاب عربة تجرها الأفاعي.