Al Jazirah NewsPaper Friday  04/07/2008 G Issue 13063
الجمعة 01 رجب 1429   العدد  13063
الإهانات تبدأ هكذا..!!
د. عبدالله بن صالح العريني

على مر العصور تحيا لغات، وتموت لغات، وتمرض لغات، وتصح لغات، ولغتنا العربية الرائعة العظيمة تبقى حية قوية يجري ماء الحياة في عروقها ويتدفق في شرايينها ويجدد على الدوام شبابها.لغة جميلة في لفظها، عميقة في معانيها، ثرية في معاجمها، رائعة في أسلوبها، واسعة في مجالاتها، منضبطة في قواعدها، غنية بمفرداتها، حروفها مرنة ولها قابلية فائقة للتشكل مما جعلها صالحة لأن تكتب بها جميع لغات الشعوب الإسلامية

.. ونطق بها وما يزال ينطق الملايين من غير أبنائها، استطاعت أن تحتوي كل تحولات الحضارة، ووسعت قبل ذلك وبعده كتاب الله لفظاً وغاية.

يغبطنا عليها ملايين الناس ويتمنى الواحد لو كانت لديه القدرة على معرفتها والكتابة بها، والتحدث بها.

سارت مسير الشمس، وبلغت ما بلغ الليل والنهار، قال أحد العلماء من غير العرب: لأن أهجى بالعربية أحب إليَّ من أن أمدح بالفارسية.

كان من حظنا أن نشأنا في مهدها، ومنطلقها، وأن أصبحت هي لغتنا من غير ما جهد منا، والفضل كله لصاحب الفضل عز وجل.

* * *

الجميع ينظرون إلينا باغتباط وولاة أمرنا حفظهم الله يدركون هذه الميزة العظيمة التي تتميز بها بلادنا، وأن هذا البلد هو موطن اللغة العربية، وقلعتها ومأرزها الذي تأرز إليه وملاذها إذا تجنى عليها الآخرون.

سقى الله في أرض الجزيرة

أعظماً يعز عليها أن تلين قناتي

إذا رأينا التعاميم الرسمية الصادرة بشأن دعم اللغة العربية وجدنا حظاً كبيراً لهذه اللغة واحتراماً كبيراً لها، وتقديراً لدورها، وإيماناً بأنها جزء لا يتجزأ من ذواتنا وشخصيتنا، وإدراكاً أن التهاون في خدمتها سوف يسلمنا إلى ضياع الهوية، والتفريط مما جعلها حقيقة كالشمس وضوحاً ولذا نص عليها في نظام الحكم الأساسي للدولة.

واستمرت تدعمها الأوامر السامية، والتعاميم المستمرة في ضرورة احترامها والدفاع عن لغة هذا الوطن.

***

وبالرغم من كل شيء حصلت المفاجآت غير السعيدة.. فإذا رأيت واقع اللغة العربية عندنا رأيت العجب الذي لا ينقضي منه العجب تفريط.. وإهمال.. وتهميش.. نعم..!! الواقع يعاني خللاً.. خللاً كبيراً لابد من إصلاحه ومشكلتنا في الإدارة الوسطى التي تتعامل مع القيمة العظمى للغتنا بكثير من اللامبالاة.

فنحن نهين حبيبتنا الغالية ويدعي بعضنا حبها، ويسيء إليها بتصرفاته ومواقفه، حدثني أحد الإخوة أنه قبض (شيكاً) مصرفياً من أحد البنوك العاملة في المملكة ليست فيه أي كلمة عربية واحدة (إي والله!!) كُتب (الشيك) بلغة أجنبية فإدارة البنك لا تهتم بلغتنا وأنها قيمة من قيمنا، ولو كان فرعها هذا في غير المملكة لما كتبت الشيك إلا بلغة ذلك البلد. أما نحن فلا تلقي لنا بالاً وتفترض أن على الجميع أن يتركوا لغتهم إلى اللغة الأجنبية الغريبة حتى يعرف العميل ما الذي بين يديه؟ ما الذي يحمله؟ يقول ذلك الأخ أخذت الشيك (مرغماً!!) لا أعرف ما لي فيه وما علي..!!

كل هذا في بلد العربية الأول..!!

والنقود عربية..!!

ودافع الشيك عربي..!!

والمستلم عربي..!!

والبنك أكثر من 50% من رأس ماله عربي سعودي..!!

إذا لم تكن هذه إهانة، فما هي الإهانة؟!

* * *

وما دمنا بصدد البنوك فموضة بطاقات الائتمان تتميز بأن كشوفاتها للعملاء تأتي بلغة أجنبية، هذا مع أن الترجمة الإلكترونية لهذه المصطلحات المحدودة من أسهل شيء..!! ولكنها تكتب بلغة غير عربية للمواطن العربي السعودي الذي هو الصيد الثمين لهذا النوع من الاستهلاك الرهيب الذي جعل تجارة البطاقات الائتمانية عندنا تزيد عن (400) أربعمائة مليون ريال في العام الماضي فقط (هذا على ذمة مجلة (المجلة) في عددها 1428).

إذا لم تكن هذه إهانة، فما هي الإهانة؟!

***

وفي مجال المدارس العالمية التي يدخلها أبناء الأسر السعودية فحدث ولا حرج.. من التهميش والإقصاء للغتنا، والنظر إليها بازدراء في مقابل تلميع اللغة الأجنبية وجعلها الشائقة البراقة.

ونتيجة الأمر أن ابني وابنك لقلة محصولهم ومعلوماتهم عن لغتهم سوف يجهلونها، وسوف يصعب عليهم التحدث بها، والكتابة بها، وسننشئ جيلاً منا يعادي لغته؛ لأن الإنسان عدو ما جهل، فنكون ممن يطرف عينه بيمينه.

إذا لم تكن هذه إهانة، فما هي الإهانة؟!

وآخر ما سمعنا من عزم وزارة التربية والتعليم كتابة الشهادات الثانوية العامة بلغة أجنبية إضافة إلى اللغة العربية بحجة أن هناك من يحتاج الشهادة بلغة أجنبية، وهو سبب لا يقوم أصلاً لهذا التغيير الكبير الذي سيطال الملايين من الطلاب والطالبات في المملكة عبر السنوات القادمة. فالذين يحتاجون إلى اللغة الأجنبية سيظل محدوداً وفق كل المقاييس، وأسهل شيء هو ترجمة الشهادات الأصلية باللغة التي يحتاجها الطالب.

إن وجود الشهادات الأصلية بلغتنا مطلب حيوي ويحل إشكال الترجمة بوجود نماذج متعددة جاهزة ليس بلغة أجنبية واحدة ولكن بلغات أخرى كل ذلك هو الحل الذي لا حلَّ سواه، هذا أفضل، وأكرم للغة العربية بدلاً من جعلها محاصرة في عقر دارها، ومزاحمتها في أبنائها وبناتها.

إن نسبة الذين يحتاجون تلك الترجمة سيظلون محدودين، ودائما ما تعامل الضرورات بقدرها، أما إذا توسعنا في الضرورات فأصبح الاستثناء قاعدة، والقاعدة استثناء، والأصل فرعاً، والفرع أصلاً فهذا يدل على اضطراب الأمور ولذا يجب التأكيد أن حقيقة الانتماء لهذا البلد الكريم تقتضي توقف الوزارة عن ذلك العزم فوراً وإبقاء السيادة للغة العربية.

لأن الأساس من وجود وزارة التربية والتعليم هو بناء شخصية الفرد وتأكيد هويته ومن أهم أسس شخصيتنا هي لغتنا.

إذا لم تكن هذه إهانة، فما هي الإهانة؟!

إن (العقوق) بأمنا الكريمة اللغة تعدى حتى وجدناه في موقف لأحد المسؤولين (الذين نكن لشخصه كل التقدير والاحترام) يقف ممثلاً للمملكة في مؤتمر يعقد على أرض هذا الوطن، ويلقي كلمته بلغة أجنبية!! وهي رسالة واضحة تدل على عدم الاعتداد باللغة، وعدم الاعتزاز بها، وعدم تقدير مشاعر مواطنيه، وعدم تقدير مكانته الرسمية التي تلزمه (أدبياً) بأن يتكلم باللغة العربية وهو تصرف يحرج المسؤولين العرب جميعاً الذين بذلوا جهوداً جبارة أثمرت عن اعتراف الأمم المتحدة باللغة العربية كواحدة من اللغات الرسمية في أروقة الأمم المتحدة.

إذا لم تكن هذه إهانة، فما هي الإهانة؟!

***

إن من أسباب هذه المشكلة أن بعضهم يجعل الواقع عصاً غليظة يلوح بها على كل من يريد الالتزام باللغة العربية وهذا أمر فيه مغالطة.. فيه مغالطة كبيرة، لأننا نحن الذين نصنع الواقع، ونشكله كما نريد، وهامش اعتبارات الواقع مقدرة ومعتبرة ولكنها تظل محدودة.

إحدى البلاد العربية السياحية نحرت لغتها قرباناً للسياحة والسياح، ومع ذلك فلم ترتق في سلم السياحة شيئاً مذكوراً إذا قورنت بالبلاد السياحية.

وبلد مثل إسبانيا لم يتنازل قدر أنملة عن لغته، ولم يكتب بها أي شيء حتى ولو كان في مصلحة السائح وجعل كل شيء باللغة الإسبانية.

ومع ذلك لم يؤثر أبداً في تقليل عدد السياح الذين يصل عددهم كل سنة إلى 50 (مليوناً) نعم خمسون مليوناً..!!










 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد