في إحدى المجموعات الإلكترونية التي أشتركُ فيها طُرح تساؤل حول شعر أدونيس، وكان الطرح اعتياديا في الاختلاف بين الآراء لولا أن أحد الأصدقاء عدّ هذا الشعر (الحداثي وما بعد الحداثي) مضيعةً للوقت، وجزم أحدهم أن أدونيس نفسه لا يفهم شعره!! |
قلت: أن يصل التهكم إلى هذه الحدة فلا مناص من التطفل بالمشاركة. |
يتكرر تساؤل كثير من الناس عن جدوى الغموض في الشعر الحداثي أو ما بعد الحداثي.. وهل هو طبيعي عفوي أم مصطنع متكلف؟ لماذا هذا الغموض؟ هناك إجابة أولية بسيطة، وهي أن طبيعة الجديد تتطلب وقتاً لكي يصبح مألوفاً.. لكن جزءاً من هذا الجديد مضى عليه نصف قرن ونيف! إذن ثمة مسائل أكثر تعقيدا من تلك الناحية الزمنية الخطية.. وفي تقديري، أن الغموض المزعوم هو نتيجة عوامل عدة، مثل: الاختلاف في التلقي لاختلاف الدلالة بين القديم والحديث، الطريقة الجديدة للتعامل مع الفن والأدب، طبيعة الشعر الحداثي، تجاهل التعليم المدرسي للشعر الحداثي مما يؤدي إلى جهل المتعلمين به، وظيفة الشعر القديمة اختلفت عن الحديثة.. |
إن دلالات اللغة مختلفة بين القديمة والحديثة، فعلى سبيل المثال في أحد الأندية الأدبية انتقد أديب حداثي آخر تقليدياً، قائلاً: إن مشكلتك أن لك رأياً فكرياً مسبقاً وجاهزاً؛ فرد عليه التقليدي: إن تلك مفخرة وليست معيبة! والشاهد هنا، أن الحداثي يرى أن الرأي ينبغي أن يتشكل وفقاً لتفاصيل الحالة المعروضة للنقاش قبل إطلاق الأحكام الجاهزة، بينما يرى التقليدي أن المهارة وسعة الاطلاع تمكنك من تجهيز الأحكام مسبقاً.. |
الاختلاف في دلالات المفردات ناتج عن اختلاف في منهجية التفكير، وبالتالي ينتج اختلاف في طريقة التعامل مع الفن والأدب بين الطريقة القديمة والجديدة.. ففي الشعر يكون للتقليدي منهج ملتزم بالأصالة، فللشعر عنده أصول محددة سلفاً وثابتة، ومن ثم يكون له حكم مسبق على العمل الشعري وفقاً لالتزامه بتلك الأصول قبل الغوص في تفاصيل العمل الفني، بينما الحداثي يتبنى منهج التغيير المستمر، ويرى أن الالتزام بأصول فنية محددة سلفاً إعاقة للإبداع، فالحكم على العمل الفني ينبغي أن يكون من داخله الفني ومن سياقه البنائي والمعنوي.. هذا لا يعني أن يكون العمل الفني الحداثي بلا معايير، بل إن المعايير أصبحت أكثر مرونة وتجريبية ولم تعد ثابتة أو مدرسية.. |
وتغدو حالة عدم فهم ما ينشر من شعر حداثي مسألة طبيعية متوقعة، إذا عرفنا أننا تعلمنا على أسلوب مدرسي نمطي واحد وقديم يتعامل مع الشعر، ومع الفن عموماً، تعاملاً شفاهياً سماعياً مباشراً؛ وربما لم نتعرف على أساليب أو طرق تفكير فنية حديثة داخل المدارس والجامعات. تلك الأساليب الحداثية وما بعد الحداثية نقلت طبيعة العمل الأدبي من كونه نصاً سماعياً إلى نص بصري. هذا لا يعني أن النص السماعي أقل إبداعاً، قدر ما يعني أن له طبيعة مختلفة.. |
لقد تعلمنا في المدرسة، وفي ثقافة المجتمع التقليدية، أن الشعر هو الكلام الموزون المقفي أو ما شابه ذلك، أي هو كلام شفهي يُلقى ويُسمع مباشرة، ويعتمد على الإيقاع، والإيقاع سماعي، والقافية سماعية أيضا.. وحتى عندما تكتب القصيدة التقليدية، فهي نص سماعي. وللنص السماعي علاقة مع المحيط الحيوي (مؤلف النص، الصوت، الجمهور، المكان، الزمان..) متخيلة أو واقعية، وهذه العلاقة تؤثر جوهرياً في الصياغة والمدلولات؛ بينما في النص البصري يغيب المؤلف والمحيط، ويصبح القارئ وحده مع مدلولات المفردات، ومع ما يستدعيه ذهنه من خيال.. |
وتعلمنا في النص السماعي أن نلتفت للمضمون مباشرة لكي نفهم ما يقوله الشاعر، فمع عدم وجود الطباعة (وانتشار الصحافة والكتب) في الماضي، كان للشعر وظيفة إعلامية وإخبارية سياسياً واجتماعياً، وهذه الوظيفة كانت تتم في الغالب مشافهة تتناقلها الألسن وتحفظها الذاكرة. أما وقد تفرعت المهام وأصبح بالإمكان الحصول على مضمون الأفكار والمعلومات من جهات عدة في المجتمع الحديث، فقد استغُني عن دور الشعر في نقل الأخبار والأفكار، وأصبح دوره في ذلك دور غير مباشر، أما دوره المباشر فظل في المسألة الجمالية والمتعة والإبداع الفني والعاطفة، وفي صياغة رؤية جديدة للذات وللعالم المحيط، معيداً إنتاج العالم في صور وصيغ فنية مبتدعة، ومستثمراً في ذلك كل المنجزات العلمية والثقافية خصوصاً في علم النفس والاجتماع واللغة.. متناولاً مادة الحلم واللاوعي والرؤيا.. هنا النص البصري يحض المتلقي على التأمل، والحرث في المدلولات، واستعلاء المشاعر والعواطف، وتفجير المعاني.. |
الشعر التقليدي المعاصر الذي اعتاد الناس عليه، له طريقة تعبير تعتمد على بناء منطقي متسلسل، ترتبط به العلة بالمعلول، ويتم نقل الانطباعات والصور طبقاً للواقع أو قريبة منه، وتصاغ الأحاسيس وفقاً لمعايير فنية ثابتة كالمبالغة والمجاز والتشبيه والرمز المباشر، لتغدو لغة الشعر واضحة مألوفة أو على الأقل غير غامضة، على خلاف الشعر الحداثي الذي يحاول خلق علاقات جديدة ولا متناهية بين الأشياء، ليصوغ عالماً مختلفاً عن الواقع المرئي المباشر إلى عالم من الحلم والرؤيا والتجربة الذاتية.. من الأحداث المباشرة والواقع المنظور إلى التبصر في ما وراء الواقع والأحداث.. |
العلاقات الجديدة بين الأشياء يتبناها الشعر الحداثي، لأن العالم قد تبدَّل، وعلى الشعر أن يتبدَّل أيضا، فلم يعد الشاعر يقوم بدور إعلامي أو توعوي يغطي النقص في المعارف، أو محلل اجتماعي، أو خطيب سياسي؛ فالتقدم الهائل في العلوم وتعدد وسائل المعرفة وتوافرها للجميع، يجعل الشعر يعود لهويته الأساسية وهي الجمال الفني والإبداع اللغوي والبحث الروحي في ألغاز الذات ومحاولة اكتشافها، والتأمل الميتافيزيقي في أسرار العالم والعلاقات الخفية بين الموجودات.. وذلك يتطلب أن يشق الشاعر عالمه الخاص ويغوص في عالم الإنسان الداخلي وصراعاته الوجدانية وتقلباته العاطفية، فلا يصبح الشعر تقريرياً ولا خطابياً فهذه وظيفة النص الموضوعي أو العلم المادي.. |
هذه العلاقات الجديدة تشمل أيضاً البنية الشعرية، فلم يعد بناء الشعر كلام موزون الإيقاع، بل يصاغ البناء عبر موسيقى داخلية يكتشفها الشاعر، كبديل أو مكمل للموسيقى الخارجية (التفعيلة).. فينتج لنا نصاً شعرياً من سماته التعبيرية: التكثيف، التركيز، التقلُّب، المفاجأة، الدهشة، اكتشاف التفاصيل المهملة، توظيف اللاوعي والعقل الباطن والرمز والأسطورة والحلم.. الخ.. هنا المكمن الأساسي للغموض في الشعر الحداثي.. لكنه غموض لذيذ إذا تمكن من اكتشاف جديد ورؤية عميقة! |
بهذه الحالة يكون النص الشعري الحداثي عميقاً وتأملياً ومتعدد الرؤى.. والمتعة الجمالية فيه متعة تطول على عكس متعة النص السمعي البدهي المباشر متعة سريعة الزوال.. يقول الشاعر ابن الرومي: |
نار الروية نار غير مُنْضجة |
وللبديهة نار ذات تلويحِ |
وقد يفضلها قوم لعاجلها |
لكنه عاجل يمضي مع الريحِ |
|