Al Jazirah NewsPaper Sunday  29/06/2008 G Issue 13058
الأحد 25 جمادىالآخرة 1429   العدد  13058
من يشرب النفط؟
محمد العنقري

النفط فوق 140 دولاراً للبرميل لم يعد توقعاً بل حقيقة سجلتها بورصات النفط العالمية مع إقفالها الأسبوعي يوم الجمعة لتتساقط معها الأسواق المالية العالمية من الغرب إلى الشرق كأوراق الخريف وسط مخاوف ارتفاع معدلات التضخم وبروز شبح ركود الاقتصاد العالمي من جديد بعد أن أنهكت البنوك المركزية العالمية للدول العظمى من تغذيتها النقدية للأسواق المالية بعد أزمة الرهن العقاري وقيام البنك الفيدرالي الأمريكي بحملة تخفيضات على أسعار الفائدة وصلت إلى 2 بالمائة حالياً لعودة الحرارة إلى جسد الاقتصاد الأمريكي المريض. ولم يكن قرار الفيدرالي الأمريكي بإبقاء أسعار الفائدة عند مستوياتها يوم الأربعاء الماضي مؤشراً يحمل معه إيجابيات مطلقة؛ فبقدر ما قلل من احتمالات الركود الاقتصادي إلا أن السبب الرئيسي لهذا القرار هو معدل التضخم الذي وصل إلى 5.5 بالمائة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي يتطلب عكس الاتجاه بأسعار الفائدة إلى الأعلى خلال الأشهر القادمة؛ ما يعيد القلق من جديد حول ضعف احتمالات عودة النمو للاقتصاد الأكبر بالعالم الذي يشكل أكثر من 22 بالمائة منه، خصوصاً أن عودة الأسعار للارتفاع تأتي بعد مؤتمر جدة للطاقة الذي أوضح وجهة نظر المنتجين حول كفاية الإمدادات واستعداد المملكة العربية السعودية لرفع طاقتها الإنتاجية دعماً لاستقرار الأسواق، إلا أن العوامل الأخرى تزداد قسوة بعد عودة الدولار للهبوط واستمرار الصناديق العالمية في رفع أسعار العقود الآجلة مستغلة أي خبر في محاولة لتعويض انخفاض الأسواق المالية؛ ما سيتسبب بهبوط قاس ينتظرها نتيجة سحب الأموال منها والاتجاه لأسواق السلع وعلى رأسها بورصات النفط والذهب والسلع الغذائية التي أرهقت ميزانيات الدول الفقيرة وجيوب أبنائها؛ ما دفع خادم الحرمين الشريفين إلى التركيز خلال مؤتمر جدة على دعم تلك الدولة وإطلاق مبادرة النفط للفقراء.

ولكن هناك تساؤلاً يطرح نفسه: إذا كانت كل العوامل التي تتردد هنا وهناك حول أسباب ارتفاع أسعار النفط معروفة وحلولها ممكنة فلماذا لم تستوعب الأسواق هذه الأخبار وتعود للانخفاض مجدداً؟ ولماذا تعاود الدول العظمى تأجيج الأوضاع السياسية بمنطقة الشرق الأوسط التي تستحوذ على 60 بالمائة من نفط العالم بهذه المرحلة التي تستوجب التهدئة أكثر من أي وقت مضى، خصوصا في موضوع الملف النووي الإيراني؟ فإذا كانت تشتكي من الأسعار المرتفعة للبترول فحري بها أن تمسح المخاوف من حسابات السوق النفطية بالتركيز على جانب الحلول السياسية. قد تكون هذه الأسئلة بديهية لدى العموم، ولكن الإجابة عنها تنبع من معرفة الأهداف البعيدة المخطط لها من دوائر صنع القرار لديهم على كافة الأصعدة.

فشركات النفط العالمية الكبرى حققت أرباحاً ضخمة من ارتفاع أسعار البترول، والضغوط على الدول المنتجة لزيادة الطاقة الإنتاجية جعلت هذه الدول تسمح بعودة تلك الشركات للاستثمار مجدداً في أهم مناطق النفط العالمية؛ لتزيد من رقعة استحواذها على حصص نفطية جديدة كانت مغلقة أمامها، وهذا ما أُقرّ في مؤتمر جدة الأخير.

كما ستضطر دول أوبك إلى زيادة إنتاجها من خلال عمليات التنقيب والإنتاج للاستعانة بالشركات العالمية المتخصصة، وهي في أغلبها أمريكية وأوروبية؛ ما يعني عقوداً بمئات المليارات من الدولارات، وبالتالي عودة جزء من الدخل المتحقق من ارتفاع أسعار البترول إلى جيوب تلك الشركات وإنعاشها من جديد بعد ركود في أعمالها استمر سنوات طويلة. كما سيفتح الباب من خلال زيادة الضغط على اقتصاديات الدول الفقيرة خصوصاً في إفريقيا، الأرض الخام والبكر؛ لتدخل الدول العظمى إليها وتفرض شروطها للنهوض باقتصادياتها مقابل تخفيف عناء الفقر عنها، وبالتالي سيكون الاستغلال والحصول على الامتيازات بأبخس الأثمان.وعلى جانب احتواء نمور النمو العالمي بقيادة الصين والهند فتبرز أهم الأهداف في رفع تكلفة إنشاء مخزون نفطي قررته تلك الدول منذ ثلاث سنوات، وشرعت به العام الفائت بشكل موسع، وهذا ما أدى إلى رفع الأسعار بنسبة 100 بالمائة من 70 دولاراً إلى 140 دولاراً في سنة واحدة؛ ما سيرفع تكلفة المخزون بخلاف رفع تكاليف الطاقة بميزانيتها وتخليها شيئاً فشيئاً عن دعمها، وهذا ما تحقق قبل أيام في الصين؛ حيث رفعت الأسعار على الطاقة بنسبة 18 بالمائة، وسبقتها الهند بنسبة 10 بالمائة لتخفيف الاستهلاك خوفاً من تفاقم التضخم الذي سيؤثر على مستويات النمو لديها.

أما على صعيد الأسواق المالية العالمية فاستمرار انخفاضها سيغري عودة المستثمرين الأجانب بكافة إشكالهم إليها ولاحظنا ذلك من خلال استثمار الصناديق السيادية بأصول المؤسسات المالية التي تضررت من أزمة الرهن العقاري؛ الأمر الذي يفسر على أنه استرجاع عوائد النفط وما حققته الدول النامية بشرق آسيا من فوائض مالية للاستثمار مجدداً بالأسواق الأمريكية والأوروبية؛ نظرا إلى ما يسمى اقتناص فرص وصعوبة امتصاص أسواق واقتصاديات تلك الدول لتسونامي السيولة لديها الذي يقدر بأكثر من 3 تريليونات دولار أمريكي، حتى أن رئيس البنك الدولي طالب دول شرق آسيا بضرورة التحرك للاستثمار بالأسواق الأمريكية والأوروبية للمساعدة بحل أزمة الرهن العقاري وإنقاذ الاقتصاد العالمي من شبح الركود والكساد المحدق به. وتبرز من كل ذلك مخاوف على أسواق الخليج تتمثل بخروج سيولة للاستثمار بالأسواق العالمية في حال استمرار انخفاضها بشكل كبير، فعندها ستتولد فرص لن يفوتها المستثمرون الكبار، خصوصاً أن أسواقنا ما زالت في طور التشكيل والبناء؛ ما يعني حاجتها لوقت ليس بالقصير حتى تصبح ناضجة ومستقرة وجاذبة للاستثمار؛ حتى تستطيع استيعاب السيولة الضخمة الموجودة حالياً بأسواقنا التي تبحث عن فرص لكنها تبقى محدودة أمام تنوع الاقتصاديات العالمية الكبرى.

فساحة الاقتصاد العالمي لم تعد تستوعب إلا الأقوياء الذين يشربون النفط ويتهموننا بتعطيشهم، والدول النامية أمامها تحدٍّ كبير يتمثل بتسهيل قوانين الاستثمار لديها وتنمية القوى العاملة لتوطين الأموال؛ فالفرصة ما زالت موجودة ولكن استغلال الوقت يبقى هو الفيصل في اغتنام الفرص أو تبديدها.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد